11‏/05‏/2009

الملحمة الشعرية التاريخية " بشناله عن الحتيت "


 الملحمة الشعرية التاريخية " بشناله عن الحتيت " تعتبر واحدة من أقدم النتاجات الشعرية الغنائية , البطولية التاريخية عند الشعب الشركسي. و تدور فيها أحداث تاريخية حقيقية جرت قبل أكثر من 36 قرنا من الزمان, و تتحدث عن الحتيت أو (بروحتيت) الذين كانوا يعيشون في المناطق الشمالية و الوسطى من الإمبراطورية الحاثية.

افتتاحية الملحمة تتحدث عن العلاقة العرقية و القربى بين الشركس و الحتيت, حيث تبدأ بالأبيات التالية:

 

الحتيت أجدادنا

من الشعوب القديمة

و التي تحدث الأخبار القديمة


 

  في الواقع تنتشر بين الشراكسة الكثير من القصص التي تتحدث عن هجرة مجموعة كبيرة من الناس في الزمن القديم قادمة من الإمبراطورية الحاثية لتسطون في القفقاس الشمالي الغربي. و يحفظ في الأرشيف الفلكلوري التابع لمعهد العلوم الانسانية في جمهورية أديغيا ثمانية تسجيلات مشابهة لهذه الملحمة بأداء مؤرخين و مغنين شعبيين مشهورين أمثل: ناوكه شوبشاخ, جاوي حاجي, ناتخوه بقوه و غيرهم. إحدى هذه المحفوظات و التي تحمل عنوان : " كيف أتى الأديغه الى القوقاز " تروي أن السبب الذي أدى إلى هجرة الحتيت إلى القوقاز كانت حادث غير مقصودة.

  فمرة و أثناء لعب الابن الأصغر للأمير "حاتشي", و عن غير قصد, قلع عين أخيه الأكبر "كورابشو", و حيث أن قانون العقوبة بالمثل كان ساري المفعول في بلاد الحاثيين آنذاك, وبمحاولة منه لتجنب مثل هذه العقوبة, هرب حاتشي واختبأ بعيدا عن الأنظار, وبعد مرور بعض الوقت, قام مع مجموعة من مؤيديه بالانتقال بواسطة القوارب ( في رواية أخرى بواسطة السفن اليونانية) قاطعين البحر الأسود لينزلوا السواحل الشركسية بالقرب من مدينة " أنابا " الحالية.

  هجرة هذه المجموعة تحديدا إلى القوقاز الشركسي تدل على القرب التي تربط سكان المنطقة بالقبائل الحاثية. و تجدر الإشارة إلى أنه في هذه الرواية ترد أسماء حاثية بحتة, على سبيل المثال: أسماء الأخوة "كورابشو" و "حاتشي", و كذلك اسم مؤنث علم "خاربز" و الذي كان ما يزال منتشرا في الوسط الشركسي إلى فترة قريبة.

  إن ملحمة " بشنالة عن الحتيت " تشهد بلغة جذابة عن المعرفة العميقة لمؤلفيها بتاريخ و ثقافة و نمط حياة أجدادهم. لقد حدثونا بفخر كبير عن الأعمال البطولية و الإنجازات التقنية للحاثيين, و نقلوا لنا كيف كانت الإمبراطورية الحاثية قوة عظمى:

 

إمبراطورية الحاثيين الكبيرة

كانت واقعة وراء البحر الكبير

بكل مجد كانت تمتد حدودها

أوصلها الحاثون إلى مصر.


 

  هذه الملحمة تتحدث عن أنه عندما وقف الفرعون المصري " رمسيس " أمام امتداد حدود الإمبراطورية الحاثية, أبدى الحاثون آنذاك وحدة قوية, و رجولة فائقة و قدرة على الصراع. و يجدر الذكر بأن الحاثيين كانوا يتقنون فن استخدام العربات الحربية التي كانت تهز الأرض تحت أقدام العداء.

  و الملفت للنظر أن كل هذه الأحداث أكدتها الدراسات التاريخية, فبتحليله للفن الحربي عند الحاثيين ألقى المؤرخ السلوفاكي " زاماكوفسكي ", الضوء على الأهمية الكبيرة للعربات الحربية. كتب يقول: " إن التفوق النوعي و الكمي للعربات الحربية الحاثية قوت الروح القتالية لطواقمها, وكما نعلم فان الحالة المعنوية للقوات تعتبر إحدى أهم العوامل الأساسية التي تحدد نتيجة المعركة. لقد كانت العربات تخترق عمق جيش الأعداء مستخدمة عنصر المفاجأة, مهاجمه إياه من الخلف ".

  وقد ثبت تاريخيا أيضا ماورد في هذه الملحمة عن عقد اتفاق سلام بين الفرعون المصري "رمسيس الثاني" و القيصر الحاثي "حتشوليم الثالث". و قد كتب الباحث "روبنيشتين" حول تاريخ الدولة الحاثية يقول: " في عام 1296 قبل الميلاد وصلت إلى مصر بعثة حاثية حاملة لوحة من الفضة محفور عليها 18 بندا من المعاهدة السلمية بين القائد الحاثي العظيم "حاتشوليم الثالث" و حاكم مصر العظيم و المتألق "رمزيس الثاني". تعاهد القيصران على الثقة و الأمانة, ووعدا بتقديم المساعدة العسكرية و غير العسكرية و عدم الاعتداء".

  اللوحة الفضية لم يحافظ عليها, و لكن نسخة عن المعاهدة مكتوبة بالهيروغليفية على حائط معبد الكرنك في مصر, و أيضا على عدة ألواح فخارية واحدة منها موجودة في متحف الارميتاج في مدينة سانت – بطرسبورغ.

  في هذه الملحمة تأكيد على جدية الحاثيين في تثبيت و تقوية هذه المعاهدة, حيث قام الملك الحاثي بتزويج ابنته إلى الفرعون رمسيس الثاني. مكان عقد المعاهدة يسميه الشراكسة " باله ستين " و ترجمتها الحرفية " إعطاء وعد ". و إحدى الفرضيات تقول أن تسمية فلسطين جاءت من الكلمة الشركسية " باله ستين " و خاصة أن توقيع المعاهدة تم بالقرب من مدينة الناصرة في فلسطين.

  إن ملحمة " بشنالة عن الحتيت " تعتبر مصدر تاريخي موثوق يحمل في مضمونه وقائع و تفصيلات يمكن أن تكون معروفة لمعاصريها فقط, لذلك يمكننا القول أن هذه الملحمة ولدت بعد عام 1296 ق. م.

  إن المعركة التي جرت في منطقة قاديش عام 1296 ق. م وجدت مكانها في الأغاني الشركسية و هي تظهر في الكلمات الأولى من هذه الأغاني " نارين " و ترافق الأغاني و الملاحم الشركسية ترنيمات و هي ريدادا و نارين. اذا كانت ريدادا على حد علمنا قد عاش متأخرا كثيرا عن الأحداث الواردة في ملحمة " بشنالة عن الحتيت " في القرن الحادي عشر الميلادي, فانه و قبل 3 آلاف سنة و أثناء معلركة الفراعنة مع الحاثيين في قاديش قرب نهر أورونت, كان يقود القوات الحاثية القائد " نارين" و الذي لقي مصرعه في هذه المعركة. إن نارين كان محبوبا لدى الحاثيين, و كان يتمتع بشعبية كبيرة, و قد أحبط مصرعه الحاثيين, و لذلك و رغبة منهم في تخليد ذكرى القائد المقدام نارين, قام الحاثون بتأليف الأغاني عنه, ومنذ ذلك الحين أصبح اسم نارين يرافق معظم الأغاني الشركسية التي يرددها الشراكسة حتى أيامنا هذه و خاصة في المهجر.

 

  شمس الدين خوت - باحث في الشؤون التاريخية في معهد العلوم الانسانية في جمهورية أديغيا,

 دكتور في العلوم اللغوية.


ليست هناك تعليقات: