21‏/02‏/2010

الدولمينات

الدولمينات

سمير خوتقوه – بيلا أغربا – روين أغربا

إعداد زاور شوج

الترجمة الى اللغة العربية : أحمد عزيز بيدانوق


ان الشكل الخارجي لهذه المدافن يشبه منشآت حجرية صغيرة ولذلك أطلقت عليها شعوب غرب القفقاس تسمية (بيوت الأقزام). و هذه الدولمينات هي منشآت حجرية قديمة تمثل شكل التواصل مع العصر الحجري (ميغاليتيك). أنشات الدولمينات من حجارة ليست كبيرة ومن بلاطات حجرية تم صنعها يدوياً وهي ذات أشكال محددة. لقد تم اكتشاف جثث الأقدمين تحت الكثير من الدولمينات, وكما يؤكد علماء التنقيب المعاصرين فان هذه المدفونات تعود الى عهود بعيدة الأزل, وما يؤكد ذلك دراسة طريقة انشائها وطرق استخدامها التي تدل على تقديس القدماء لهذه المنشآت, ولكن دون وصول العلماء الى الهدف الحقيقي من بنائها, حتى ان الدراسة الفلكية للكثير من الدولمينات لم تكن موفقة لغاية الآن.

نظام الدولمينات :

ان الدولمين هو حجر واحد متوضع على عدة أحجار (واحياناً على حجر واحد) وأحجام ومقاسات الحجارة كبيرة. الشكل الأكثر انتشاراً هو ثلاثة أحجار متوضعة بشكل حرف Π , مثل دولمينات ستاون خيندج المؤلفة من عدد كبير من هذه الأشكال. فيما يخص الدولمينات القفقاسية فان أكثر الاشكال المعمارية اكتمالا هو الدولمين الذي يتألف من 5 أو 6 بلاطات حجرية مشكلاً صندوقاً مغلقاً حيث تنصب أربع بلاطات بشكل شاقولي وتوضع الخامسة فوقهم اعتماداً على النظر, أما البلاطة السادسة فتكون أرضية الدولمين. وغالباً ما تكون هناك فتحة في البلاطة العرضية الأمامية (تكون الفتحة دائرية واحياناً مثلثة أو مربعة الشكل و يكون لها أحياناً سدادة حجرية). تتصل البلاطات بعضها البعض بالتعشيق دون شقوق بينها, وقد تكون الجدران الجانبية والسقفية متقدمة للأمام مشكلة بوابة (مدخل الدولمين) وتكون مائلة أحياناً. يكون الدولمين عادة على سطح الأرض وتردم فوقه هضبة رملية وهي غالباً تتقلص وتزول مع الزمن. وهناك بعض الدولمينات التي تأخذ شكلاً أكثر تعقيداً, مثلاً بعض الدولمينات كانت توصل بممر ضيق مؤلف من بلاطات شاقولية أو يتم انشاؤها بشكل حجرات مستطيلة كبيرة الحجم, وكان يتم فتح مدخل لها مع الممر من احد جوانبها الطولية (بحيث تأخذ المنشأة شكل Τ) واحياناً يكون الدولمين بشكل حجرات طولية متتابعة تعرض وتتعمق تدريجياً في عمق الأرض. أما المواد المستخدمة في بناء الدولمينات فكانت تختلف حسب المناطق, من الغرانيت أو الحجر الرملي و الحوار.

الدولمينات وفيزيائية الأرض :

منذ بدء التاريخ كان الناس يشيدون دور العبادة والمعابد الخشبية والدولمينات الحجرية المفتوحة أو المختومة بالهضاب الرملية والسراديب الأرضية والحصون والأديرة والمدن الكاملة, ولم يكن لهذه المنشآت استخداماتها دائماً, فقد كان الناس يرتادونها عند اللزوم ثم يغادرونها. في الأهرامات المصرية البدائية مثلاً لم يكن هنالك مكان للملوك المتوفين, ولم يكن المكان يتسع لأكثر من ألف كاهن, باستثناء أحد الاهرامات الأولية (أسغاد) الذي كانت له ساحة خلف جدرانه. بينما كانت الأهرامات المتدرجة في أميركا الوسطى تستخدم فقط مكاناً لاقامة تجارب متعلقة بالمغنطة. كقاعدة عامة كانت الشعوب القوية في ذلك الزمن تعتمد أسلوب حياة الترحال الجزئي (نصف رحل, نصف بدو) مثل هذه الشعوب فقط كانت مؤهلة لادراك ضرورة وجود منشآت كهذه, حيث شيدوها في أماكن القوة أي في المناطق التي تكون جغرافية المغنطة فيها خارجة عن المألوف. انطلاقاً من نظرية فرنادس حول الفراغ (الجو المحيط) التي تدرس الكواكب ككائن حي متكامل, فان مكان القوة في مقياس حركة الكواكب ممكن اعتباره النقطة الحيوية للكائن الحي. ومن الطبيعي أنه عندما يتم التأثير على المناطق الحيوية للانسان بشكل مختلف فاننا سنحصل على نتائج مختلفة حسب شكل التأثير, وكذلك الحال بالنسبة للتأثيرات على مناطق المغنطة الجغرافية التي ستكون مختلفة حسب الهدف المراد تحقيقه. ان مجال تجارب المغنطة لانهائي, أما الاهداف التي سعت اليها الشعوب فهي متشابهة تقريباً: التناغم مع العالم المحيط, السعي للحصول على العلوم, بلوغ السلطة, القوة, الاستنارة والخلود الذاتي.
ان المنشآت الدينية وتلك المتعلقة بالغيب بغض النظر عن تشابه شكلها الهندسي تحمل صفات ذاتية واضحة, وتوضيح الاختلافات فيما بينها يكمن حصراً في توضيح الاختلاف في أهداف بنائها, وكذلك بمواصفات (منطقة القوة) والامكانيات الذاتية للعمال الذين شيدوها. لكل شكل هندسي حقل عزم خاص به, وكل شكل ضمن هذا الحقل يؤثر على مجال معلومات توليد الطاقة المحيط به بشكل محدد. وانطلاقاً من هذه المعلومات يتم بناء مولدات الطاقة الخاصة بالطب النفسي في العصر الراهن.


ممكن تلخيص كل ما ذكرناه بالنتائج التالية: ان الناس الذين يملكون طاقات وقدرات فجائية بامكانهم في أي مكان تصنيع مولدات خاصة بالطب النفسي وأجهزة تبين حركة الكواكب وعلاقتها بالنقاط الحيوية المطلوب دراستها, ومن الطبيعي انهم قد فعلوا ذلك.
أما فيما يخص الدولمينات القفقاسية, فتبعاً لمفاهيم الغيبية فقد كانت هنالك دولمينات مؤقتة ودولمينات دائمة, ومدافن تم بناؤها طوعاً واخرى بشكل اجباري, وكانت تبنى للغايات التالية (و بالطبع كان لكل حالة خصوصيتها): التناغم مع الفراغ المحيط, نقل أو استقبال تدفق المعلومات المتكرر, ادراك الخلود الشخصي (التامل في الأزلية), تشفير وترميز خط طول الكواكب (و ذلك من أجل اخماد أو بالعكس كشف الكائنات الحية أو الميتة التي تقطن حوله).
و حسب وقائع الزمن والوظائف المبهمة للدولمينات فهي خاضعة للتغيير كالكائنات الحية بمعنى تأثير خصوصية الانسان الفيزيولوجية في المنشأة, وهي كأي كائن حي قد تغير من مواصفاتها ورغباتها وتغير من اهدافها البدائية.
ولذلك فانه من الضروري أن نفهم بان الشخصية القوية من ناحية لاتسمح بأن تُدمر نفسها بكل بساطة (سواء جراء التفاعل السلبي أو السماح لتأثيرات مشابهة ليست مستحبة), ومن جهة أخرى فان الجهات الانشائية المغلقة المتكررة في استخدام الدولمينات تعطي انطباعاً بان من قام ببنائها قد ترك المجال مفتوحاً لاتمامها لاحقاً أو التغيير فيها أو الانتفاع منها, ويُفضل ألا يكون ذلك بطريقة همجية, بل بقصد الوظائف الانشائية كدراسة مقويات ومحولات منطقة مجال المغنطة.
الامنية الوحيدة والنداء الموجه الى الناس الذين وُهبوا الامكانيات والمواهب هي أن يمتنعوا عن دراسة خواص الدولمينات وغيرها من المنشآت المشابهة بطريقة التجربة والاخطاء التي تؤدي الى نتائج وخيمة سواء فيما يتعلق بالصحة أو بالراحة النفسية, و كذلك من أجل الحفاظ على هذه المنشآت الأثرية النفيسة.

شيركيسيا - جزيرة الدولمينات

بعد استعراضنا لأصالة الحضارة المايكوبية الذاتية وعلم السلالات البشرية (الانتروبولوجيا) علينا أن نتكلم عن حضارة الدولمينات والآثار التي تشاهد حصراً في الحضارة المايكوبية, نلاحظ في المناطق التاريخية التي كان يقطنها الابخاز والأديغة أن أغلب الدولمينات قد شيدت على حدود الجزيرة الشركسية تحديداً, وتتجه قليلاً نحو الجنوب وصولاً الى مدينة أتشامتشيرا الحالية في أبخازيا. ومن المهم جدا التنويه بانه لايوجد أي دولمين في مناطق القفقاس الأخرى: مينغريلي, سفانيتي, أوسيتيا, الشيشان, الداغستان, جورجيا, حيث يصادف فيها حجارة كبيرة مستقلة ولكنها لا تملك أي تشابهاً مع دولمينات القفقاس الشمالي الغربي لا بأنواعها ولا بأشكالها الخارجية. ان الدولمينات تفصل بوضوح وبشكل حاد القفقاس الشمالي الغربي عن باقي القفقاس.
خلال أبحاث العالم ف.ي.ماركوفين (نهاية الستينات وبداية سبيعينات القرن العشرين) تم تسجيل الدولمينات ضمن 156مركز(في 156نقطة) من القفقاس الشمالي الغربي وبعدد 2208 منشأة, منها 2014 مؤلفة من بلاطات, أما البقية فمن أنواع ثلاثية نراها نادراً (مركبة أو مستطيلة الشكل ومن كتل صخرية).
تبدو مدينة الدولمينات وكأنها منحصرة في مثلث أنابا – مايكوب - سوخوم. تم انشاء الدولمينات على مدى الألف الثاني قبل الميلاد ونصادفها كآثار منفردة أو كتجمعات كبيرة بشكل مدن الأموات. ويلاحظ أن تجمعات المدن الضخمة تتواجد تحديداً على المنحدر الشمالي الذي كان مركزاً لمدينة مايكوب. في منطقة تسارسكوي (نوفوسفبودناي) أحصى عالم التاريخ والآثار الكوباني ي.د.فيليتسين 262 دولمين وذلك في نهاية القرن التاسع عشر, ونوه كذلك بأن هناك حوالي 100 دولمين لم يتم فحصها.
كان يطلق على هذه المنطقة اسم شهل الجبابرة عند المعمرين. كما كانوا يسمون الدولمينات ب(البيوت العملاقة). في حوض نهر كيزنيكا في بلدة باغوفسكايا (باغ حابله) تم اكتشاف 564 دولمين, وفي منطقة كامينوموست (حاجوخ) لم يزل هناك حوالي 260-270 منشاة متهدمة, وهذه المناطق تابعة لأبخازيا تاريخيا.
هنالك الكثير من بقايا الدولمينات في منطقة الشابسوغ على البحر الأسود, ومن أشكال الدولمينات الأربعة نرى في أبخازيا النوع الأول فقط - البلاطات- جنوب نهر بسو.
كل الدولمينات الأبخازية تم انشاؤها في مرحلة ازدهار الحضارة الدولمينية. اما الدولمينات الاكثر قدما فقد بدأ أهالي مايكوب بانشاءها على السفوح الشمالية, ويعود تاريخها تقريبا الى منتصف الألف الثالث قبل الميلاد.
نلاحظ زمنيا ومن خلال الآثار الأساسية امتزاج حضارتين مختلفتين نسبيا. يقول ماركوفين: يبدو ان أقدم المدافن هي الدولمينات التي نعثر فيها على أدوات مدافن منطقة نوفوسفوبودناي, و تصنف ضمن هذه الفئة من المكتشفات التي تم جمعها في دولمينات بلدة نوفوسفوبودناي(تسارسكي), وكذلك الأدوات المستخرجة من مدافن مدينة ساراتوف (في حوض نهربسيكوبس) وهي كذلك منحدرات جبلية شمالية, وأيضا في قرية كراسنوالكساندروف (في الشابسوغ), وبعض الدولمينات المتفرقة في مدينة ايشيرا(على الأطراف الشمالية لمدينة سوخومي). ويبدو أن أغلب المكتشفات في الدولمينات الأبخازية اكثر قِدماَ من أدوات منطقة نوفوسفوبودناي.
وبهذا الشكل فان حضارة الدولمينات سواء من حيث الكم أو من حيث الترتيب الزمني هي وليدة الحضارة المايكوبية وتنحصر في حدود الجزيرة الشركسية التي حددناها في بداية هذا المقال.
من الطبيعي أننا لانتوصل لكل المعاني ولا المقاصد من خلال وصف الحضارة الدولمينية في القفقاس, ولا نصفها بانها أديغية فقط, نحن نعتبرها حضارة مايكوب وتراثا الأديغه أبخاز بشكل عام. وبالاستفادة من العهود السحيقة لتحديد الجزيرة الشركسية نعتبرها / مجتمعا / أبخازيا أديغيا في القفقاس الشمالي الغربي.


وفي عهود متقدمة أصبح شمال غرب القفقاس أراضي اديغية, أما المجموعات التي تتكلم الأبخازية فقد احركت نحو الجنوب. وهكذا فان حضارة الدولمينات التي نمت على قاعدة الحضارة المايكوبية تكونت على مدى الفي عام تقريباَ: من منتصف الألف الثالث ق.م ولغاية القرنين الثامن والسابع ق.م. تفصل الدولمينات شمال غرب القفقاس عن باقي القفقاس وتقّرب الجزيرة الشركسية من جزر البحر الابيض المتوسط من جوانبها. ان ظهور الدولمينات على الشريط الواقع بين البحر الأبيض المتوسط من الباسك وصولاً الى تشركيسيا يعتبر تأكيدا مادياَ لنظرية (ن.ي.مارا) التي تقول بأن اللغات القفقاسية المعاصرة هي بقايا لغات لمجموعات شعوب قديمة استمر التواصل الاقليمي واللغوي بينها. بحيث احتلت قصص وحكايا القفقاس مساحات واسعة في كل الشمال وفي مناطق البحر الأبيض المتوسط الاوربية والبلقان والاناضول والشرق الادنى (ولوقت طويل قبل تدخل واعتداء الهنود الألمان والساميين على مناطق البحر الأبيض المتوسط
ان الكثير من المعطيات اللغوية أثبتت لبيردجيخ غروزني مؤسس العلوم التي تتكلم عن الحثيين بأن الحثيين والسومريين السكان القدماء لسيبريا والقفقاس ينتمون الى فرع الشعوب التي تتكلم اللغة القفقاسية وتندرج ضمن مجموعة شعوب واحدة. حاول الكثير من الخبراء أمثال كوفتين وسولوفيوف ولافروف وبوبوف حل مشاكل ظهور الدولمينات في شمال غرب القفقاس استناداً الى معطيات (مارا). كما ظهر تأثير (مارا) على منطق ماركوفين الذي وثَق بدقة كل التطابقات والحالات المشتركة في الدولمينات الموجودة في مناطق باسكوني وسردينيا وكورسيكا والبلقان وشمال غرب القفقاس. ونوه ماركوفين الى تشابه المكتشفات في مدينة الأموات في روكينا (في منطقة القسطنطينية في الجزائر) مع المكتشفات في دولمينات شمال غرب القفقاس (من ضمن الأدوات المعدنية نشير الى الأقراط والأسلاك البرونزية كثيرة التشعبات وذات الشعبة الواحدة والى الحلقات الدائرية المتهدلة الملتوية عدة مرات والى الحلزونات المعدنية الصغيرة). ومن الضروري التنويه هنا الى التشابه الكامل تحديدا بين هذه الأدوات الافريقية البرونزية مع المكتشفات الموجودة في دولمينات القفقاس الشمالي الغربي والتي تعود تقريبا الى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد. كان السيراميك موجودا دائما في مدافن الدولمينات الافريقية وتميزبوجود الفناجين بنتوءاتها المعقوفة والأواني ذات المقابض. وهنا علينا التأكيد مجددا على تشابه أشكال الأواني وخصوصا ذات المقابض (هي تنحرف عند حافة فوهتها) مع السيراميك الموجود في دولمينات القفقاس الغربي. وهكذا فان صفات التشابه المنفصلة موجودة بين دولمينات أفريقيا الشمالية ودولمينات غربي القفقاس وخصوصا بين المكتشفات من الأدوات, وهذه حقائق لايمكن تجاهلها. قال ماركوفين عن مجموعة الدولمينات القليلة في القسم الاوربي من تركيا ما يلي:
(ان الدولمين ذو البلاطات والبوابات الملحقة به في بويونلو /لالاباشا/ يشبه بدون شك دولمينات غربي القفقاس التي نقب عنها فيسيلوفسك عند مدينة نوفوسفوبودني والدولمينات التي نقبنا عنها نحن في حوض نهر كيزينكي/مدينة بافوفسك/. ان تلك المنشآت تحديداً هي التي تتصف بالتناسب حيث تاخذ الحجرة شكلاً متطاولاً يميل قليلاً الى شكل المعين, وباقي الدولمينات المكتشفة في تركيا تشبه كذلك دولمينات القفقاس الغربي).
وظهر هذا التشابه كذلك في مجموعة الدولمينات الكبيرة في بلغاريا والحديث يدور هنا عن تشابه حقيقي, ان المنشآت الحجرية الكبيرة في شبه جزيرة ابينينسك والتي تختلف بشكلها الهيكلي اختلافاً كبيراً عن دولميناتنا و التي اطلق عليها علماء آثار أوربا الغربية اسم /المغارات الفنية/ تضم أيضاً أدوات معدنية وسيراميك قريب الشبه من أدواتنا المكتشفة في القفقاس الغربي. يقول ماركوفين:
(من المهم التنويه بأن الخطافات والفؤوس والبلطات الحربية وغيرها من الأدوات المنحدرة من صقيلية تشبه بشكل واضح الأدوات التي اكتشفها علماء الآثار في القفقاس.
ومن الطريف ملاحظة وجود السيراميك القديم في صقيلية في العهد البرونزي البدائي والذي يكون سطحه الداخلي محززاً. ونلاحظ مثل هذا السيراميك ضمن مكتشفات الدولمينات القفقاسية وخاصة في دولمينات ديغواكسلو- داخوفسك (في منطقة مايكوب) حيث يوجد الكثير من ذلك السيراميك). نلفت الانتباه الى التوازي الذي تجلى في مكتشفات دولمينات سفوح القفقاس الشمالي والذي يؤكد الفكرة القائلة بأن دولمينات القفقاس الشمالي الغربي بدأ انشاؤها أولاً في منطقة الحضارة المايكوبية, ومن ثم على السفوح الجنوبية حول البحر.
من ثم يتجه ماركوفين غرباً محللاً دولمينات سردينيا وكورسيكا ويتوصل الى النتيجة التالية:
(ان قسماً من دولمينات كورسيكا لا تختلف بشكلها الخارجي عن دولمينات القفقاس التي تم بناؤها متأخراً وتشبه انشاء الدولمينات التي اكتشفت في اعالي نهر الكوبان).


ونصل هنا الى اهم وأضخم أقدم منطقة لحضارة الدولمينات في منطقة البحر الأبيض المتوسط الغربية - شبه جزيرة بيرينيه المدينة التاريخية للباسك. وتعد دولمينات حضارة الباسك تحديداً المفتاح لفهم نشوء حضارة الدولمينات والجزيرة الشركسية. يربط العلماء حضارات الدولمينات الضخمة التي تضم شمال وشرق اسبانيا وغرب فرنسا وجزءاً من وسط فرنسا كلها بالباسك. توصل العلماء الذين درسوا سلالة الباسك الى نتيجتين أساسيتين:
أولا: إن قصص الأقدمين هذه تعتبر الذخيرة الوحيدة الموجودة قبل قصص هنود أوربا. ثانيا: إن المساحات التي كان يقطنها أهالي الباسك قبل مجيء الهنود الأوربيين الاوائل امتدت الى اواسط اوربا, وتعتبر دولمينات الباسك أكثر قِدماً من دولمينات القفقاس الشمالي الغربي.
ترجع أوائل دولمينات منطقة البيرنيه الى 4000-3500 ق.م أي أنها أقدم من الدولمينات الشركسية بحوالي 1000-1500 عام . ويقسم الزمن الرئيسي لانشاء هذه الدولمينات الى مرحلتين, الثانية منها تعود الى 1700-1500 ق.م, أي أننا نستطيع أن نثبت بأن أول دولمين في منطقة مايكوب تم انشاؤه عندما انتهى الباسكيون من انشاء آخر دولمين لهم.
يشير ماركوفين هنا بأن الدولمينات في شبه جزيرة بيرنية وتحديداً الأوائل منها تملك شبهاً واضحاً من الدولمينات القفقاسية. ففي الدولمين متعدد السطوح المكتشف عام 1869 على نهر فارز عند مدينة نوفوسفوبودني (وأمامنا هنا نسخة قديمة مطورة وأكثر حداثة من أشكال دولمينات البيرنيه), نرى أن البوابات منتقاة بشكل دقيق وكذلك نلاحظ وجود الدولمينات ذوات الحجرتين في مدينة نوفوسفوبودني.
المهم أنه حتى الأشكال المنفصلة لسيراميك دولمينات البيرنيه والزخارف على الأواني والنبال الحجرية تملك شبهاً قريباً لها من دولمينات القفقاس. من المحتمل جدا أن تكون فكرة انشاء الدولمينات قد وصلت الى شمال غرب القفقاس من الباسكيين وأغلب الظن عن طريق البحر. تخبرنا قصص اليافيتيين القدماء بأن سكان موانئ الباسك والقفقاس قد قطنوا المناطق الأكثر ملائمة حول البحر الأبيض المتوسط. يذكر الباحث زيتسار في أبحاثه المتخصصة بالصلات اللغوية بين الباسك والقفقاس بأنه من المحتمل جدا أن يكون أجداد الباسكيين أن يكون أجداد الباسكيين والقفقاسيين الذين سكنوا شواطئ البحر الأبيض المتوسط قبل مجيء الحاميين والساميين والقبائل الهندواوربية قد وضعوا اللون الأساسي للفسيفساء السلالية لحوض البحر الأبيض المتوسط.
لماذا نصَر على وصول مثل هذه الفكرة بحراً؟ أولا: لأن اليافتيين القدماء الذين كانوا يشغلون مساحات متجاورة كانت الصلات بينهم برية (مثل المايكوبيين والخاتيين والبيلوزغ والاتروسك). يؤكد الباحث غيورغيف على الصلة التي كانت بين الخاتيين والاتروسك وبين الاتروسك وسكان البيرنيه, ولكن على ما يبدو أن التواصل البري لم يكن بين الباسكيين والشراكسة باستثناء بعض التواصل البحري للقفقاسيين مع أوربا في العصر الحجري الحديث وحتى ما قبل العصر الحجري الحديث. أنشأ الباسكيون الدولمينات قبل بدء أهالي البلقان والقفقاس الشمالي بانشائها بألف او ألف وخمسمائة عام.
ثانياً: لأن الفترة الزمنية الممتدة بين منتصف الألف الثالث ق.م والنصف الثاني من الألفية الثالثة قبل الميلاد (تقريباً ما بين 2600-2100 ق.م) تعد أول فترة في مجال التجارة البحرية في تاريخ البحر الأبيض المتوسط. وبالتالي فان اليافتيين هم البحارة الأوائل الذين ضلعوا في ملاحة البحر على طول الشواطئ والجزر.
وتعود رسومات المراكب الكبيرة بمقدماتها العالية المجهزة بالشراع تحديداً الى تلك الفترة, ومن الواضح أن المراكب اليونانية القديمة قد اقتبست من اليافتيين الذين كان بحوزتهم ألفي عام من الأصالة البحرية عندما احتل الاغريق جنوبي البلقان. ان التأكيد على فكرة انتقال الدولمينات بحراً ياتي من التطابق الواضح بين المنشآت القديمة في شمالي غربي القفقاس مع المنشآت الموجودة في البرتغال المعاصرة المفصولة عن مساحات شبه الجزيرة بسلسلة جبال (البرتغال تعد جزيرة على اليابسة) وكذلك مع منشآت جزيرة سدرينيا, وان كانت الحركة قد بدأت بينها فان ذلك قد تم عن طريق البحر فقط.
تكلمنا سابقاً عن تشابه الأدوات والسيراميك في جزيرة صقيلية مع الأدوات والسيراميك في دولمينات منطقة القفقاس, وهذا يعد شاهداً كذلك على الرحلات البحرية الطويلة. نستطيع قول الشيء ذاته عن دولمينات روكني في الجزائر, فمن المستبعد أن تكون المجموعات الكبيرة قد استطاعت تذليل المسافة الى القفقاس براً أو بالعكس (في حالتي روكنيا وصقيلية) من القفقاس الى غرب البحر الأبيض المتوسط, بما أن الحديث هنا يدور عن عدم نموذجية هذه المكتشفات في الغرب, وعن نموذجيتها وظهورها المبكر في القفقاس.
وعلينا أن نتعرف أن الباسكيين ليسوا هم فقط من توغل في البحر الأسود ولكن الشراكسة أيضاً قد أبحروا غرب البحر الأبيض المتوسط, وهكذا فان فكرة انشاء الدولمينات تكون قد وصلت الى الباسكيين بحراً وقد يكون الشراكسة هم من أوصلها اليهم. لقد كتب ماركوفين عن قدوم الباسكيين الى شمال غرب القفقاس, أما وجهة النظر المعاكسة فنجدها عند لافروف الذي يقولمن الواضح أن ظهور الدولمينات في شمال غرب القفقاس مرتبط بتطور الملاحة البحرية التجارية والحربية عند شعوب المناطق الساحلية في العصر الحجري الحديث والعصر البرونزي, فلم تكن البضائع والأشخاص فقط هي ماتجلبه السفن, بل الأفكار أيضا.ً
لا يجوز كذلك أن نفكربأن شعوب القفقاس قد تعلمت بناء الدولمينات عن طريق الباعة والقراصنة الذين كانوا يقصدونها من بلدان أخرى, فمن أجل انشاء الدولمينات الاولى كان لابد لحرفيي القفقاس أن يروا منشآت مشابهة في بلدان أخرى بأم أعينهم. ولايمكن شرح ظهور الدولمينات في القفقاس سوى بأنها نتاج بعثات الشعوب القفقاسية في العصر الحجري الحديث و العصر المعدني الأولي).


تستند كتابات لافروف الى حجج هامة جداً:

1- ان المواد الأثرية المكتشفة وفي مقدمتها تلك المكتشفة في مدافن الدولمينات تبين وبشكل استثنائي تواصل علم السلالات البشرية (الانتروبولوجيا) مع أضرحة الحضارة المايكوبية.

2- تم انشاء مدافن الدولمينات الكبيرة الاولية على السفح الشمالي ومن ثم في المناطق التي استصلحها المايكوبيون, أي من الصعب تفسير مايلي: لماذا ابتعد الباسكيون القادمون من البرنيه أو من سردينيا بشكل كبير عن الشواطئ وبنوا الدولمينات في منطقة مايكوب ومن ثم استقروا متأخراً عند السفوح الجنوبية قرب البحر؟؟؟

3- ان خبرة بناء القوارب والملاحة البحرية في منتصف الألف الثالث ق.م كانت بعيدة جداً عن امكانية تأمين هجرة شعب كامل كثير العدد عن طريق البحر لكي يدحر المايكوبيين ويشغل كل المساحات الجبلية من شمال غرب القفقاس. ان هذا يعتبر مستحيلاً.

وحتى بعد ألفي عام من ذلك لم يكن بامكان السفن الفينيقية والاغريقية سوى الابحار على طول الشواطئ واخضاع أقسام صغيرة جداً من البر البعيد عن الدول المستعمِرة. وعلى سبيل المثال فقد نشات كارفاغين الفينيقية ومرسيليا الاغريقية بهذا الشكل. حتى لو تصورنا وضعاً خيالياً حول هجرة شعب كامل من كاتالونيا وفالنسيا وسردينيا والبرتغال وتحديداً عن طريق البحر لكان المهاجرون استوطنوا أول شاطئ مناسب وهذه الشواطئ المناسبة بالمئات ناهيك عن الجزر. نستطيع كذلك طرح الكثير من الأسئلة التي تجعل من رواية وصول فكرة الدولمينات للقفقاس نتيجة هجرة أعداد كبيرة من الباسكيين او غيرهم من المجموعات من غرب البحر الأبيض المتوسط الى القفقاس فكرة غير مقبولة اطلاقاً. فانطلاقاً من هذه الرواية كان على المهاجرين محاربة وقهر السلسلة الجبلية لفراكي الشرقية (أي فعلياً كل بلغاريا الحالية), ينتج عن ذلك امبراطورية دولمينية كاملة على حدود الامبراطورية الرومانية اللاحقة. وهذه الفكرة لاتلقى دعما من أي مصادر.
حتى ان ماركوفين نفسه يرى أنه من الغريب جداً أن أقدم الدولمينات القفقاسية تضم أدواتاً قفقاسية استثنائية, أي أدوات المايكوبيين, وان هذه الدولمينات قد أنشئت على السفوح الشمالية وليس عند البحر. وبالمحصلة فان العالِم ذاته قد وصل الى الفكرة القائلة بضرورة الجمع بين الذين قاموا بانشاء الدولمينات مع الأبخاز والاديغة.
وتجدر الاشارة الى أنه من الألف الثاني قبل الميلاد ولوقت متأخر جداً لايوجد أي دليل في المواد الأرشيفية حول تناوب سكاني حاصل على أراضي القفقاس الغربي.
ولهذا السبب نستطيع القول بان حضارة الدولمينات التي تطورت في القفقاس الغربي هي من اهم المصدر التي تخبرنا عن الأبخاز والاديغة الاوليين. ومن وجهة نظرنا فان هذا يعد اعترافاً غير مباشر بصحة مواقف لافروف. اذا نظرنا الى خريطة توضع الدولمينات التي وضعها ماركوفين ولافروف واينال ايبا فانه يبدو لنا بوضوح كيف تشغل حضارة الدولمينات تلك المساحات من القفقاس الشمالي الغربي التي كان يقطنها الأبخاز والاديغة على مدى العصور التاريخية. أي أن الحديث يدور هنا عن أهم مساحة بالنسبة للاديغة والأبخاز على مدى أصولهم التاريخية. هذه العملية كانت تنقطع من فترة الى أخرى في ما وراء الكوبان (رغم ان ذلك كان نادراً مايحصل) وكان يحدث بشكل أكبر على أراضي أبخازيا الجنوبية أو في القفقاس الأمامي, ولكنها كانت متواصلة على الدوام على أغلب المساحات. ان التعاقب الثقافي واللغوي والسلالي (الانتربيولوجي) للأبخاز والأديغة الأقدمين وفي العصور الوسطى والمعاصرين على مثلث الحضارة الدولمينية حقيقة يمكن شرحها بدقة بواسطة حقائق أخرى واضحة, مثل التعاقب اللغوي للأبخاز والأديغة المعاصرين وعلاقتهم اللغوية مع الحاثيين القدماء في الأناضول, والآثار الأبخازية الأديغية الكثيرة في جورجيا, ووجود أدب ملحمي نارتي يحمل تواصلاً خاصاً للسلالات البشرية, والكثير غيرها من الحقائق. لقد قدم اينال ايبا مقارنة هامة بهذا الشأن بوضعه خارطة التكوين السلالي للعالم الأبخازي الأديغي مع خارطة انتشار المجموعات والأشكال المختلفة للدولمينات, وقد تبين بأن حدود الخارطتين تتطابق تقريباً.
و بغض النظر عن انقطاع الترتيب الزمني الكبير بين فترة حضارة الدولمينات وبين أول تنويه في المصادر الى سلالة الأبخاز والأديغة, فانه يلاحظ تطابق الخصائص الاقليمية في هيكلية الدولمينات مع الأماكن التاريخية التي سكنها القدماء. وكما أوضحنا سابقاً فان الدولمينات المنشأة من البلاطات هي المعروفة في أبخازيا أما الدولمينات المستطيلة الشكل وغيرها من الأشكال الاخرى المنتشرة في تشيركيسيا فانها لاتتجاوز حدود نهر بسو.
أما في داخل المنطقة الشركسية فان أغلب الدولمينات مستطيلة الشكل تتمركز في الشابسوغ الصغرى بين نهر طوابسه ونهر سوتشي. أما في منطقة ناتوخاي القديمة فاننا نجد بشكل كبير الدولمينات المركبة وذلك من المنطقة الواقعة بين نهر بشادا ولغاية غاليندجيك وشمالاً لغاية مدينة خولمسك والشابسوغ. ومن الممكن أيضاً اجراء التصنيف السلالي للدولمينات ليس عن طريق أنواعها فقط, بل عن طريق حساب أشكالها وتناسبها الهندسي.


ان تريفونوف مؤلف أحد أكثر الأبحاث دقة حول الحضارة الدولمينية لغربي القفقاس المعتمدة في الآونة الأخيرة يستند الى ملاحظات اينال ايبا ويدعمها بمعطيات جديدة:

وهو حقل كان يضم أكثر من مائة وأربعين دولمينا أو يتسيبه ون وهي قبور كبيرة كان تشكل ثقافة دفن الموتى لدى الأديغه القدماء ويعود معظمها إلى الألف الثانية قبل الميلاد وتقع بالقرب من قرية داخوه. المستعمرون الروس والمستوطون الجدد قاموا بتدمير كل هذه الدولمينات ونهبها واستخدموا حجاراتها الضخمة في بناء أساست بيوتهم.

أولاً- ان مساحات الأراضي التي تنتشر فيها الدولمينات تتطابق بتفصيلاتها مع الأراضي التي كان يقطنها شعوب الأبخاز والاديغة لغاية مجيء الكاباردينيين الى الشرق وذلك في القرن 14-15.

ثانياً- الرصيد الأرشيفي الملموس لحضارة الدولمينات بالنسبة لتطور ثقافة الكولخيديين والميوتيين في العصر البرونزي المتأخر والعصر الحديدي المتقدم, وكذلك عدم وجود دلائل لتعاقب السكان في العهود اللاحقة. ويتفق تريفونوف بهذه المسألة مع فيودوروف (من جامعة موسكو الحكومية) مؤلف / السلالة التاريخية في شمالي القفقاس/ والذي يركز الاهتمام عند تحليله للحضارة المايكوبية والدولمينية على حقيقة تعاقب السلالات البشرية الأديغية على أراضي شمال غرب القفقاس من العصر الحجري وحتى أيامنا هذه. يقول ب.س.أكربا و س.خ.خوتكو بان التعاقب الحضاري ووحدة الأراضي واستقرار السكان هي أساس جدي للقول بان شعوب الأبخاز والاديغة هم مبدعي آلاف الدولمينات في كل القفقاس الغربي.

وبالعودة الى التطابق المدهش بين انتشار الدولمينات وبين منطقة سكن شعوب الأبخاز والاديغة, فانه يجب التنويه بأن مساحة انتشار لغات القفقاس الغربي لم تنحصر دوما بالقفقاس الغربي فقط. فبالاعتماد على أبحاث اللغويين نجد ان منطقة شمال شرق آسيا الصغرى تدخل ضمن هذه المجموعة حيث انتشرت فيها لغة القفقاس الغربي الحاثيية الأصلية. ثم تقلصت في الألف الثالث ق.م على حساب انتشار اللغة الهندوأوربية. ان التقارب السلالي اللغوي في تلك الفترة بين القفقاس الغربي وبين شمال شرق آسيا الصغرى تسمح بافتراض امكانية وجود وحدة ثقافية حضارية بين المناطق المتجاورة. وهذا يعني بان حضارة الدولمينات قد تكون مجموعة حضارات تشكلت على مساحات واسعة وجدت الظرف الملائم لتداول المواصفات الحضارية.

ضمن وجهة النظر هذه فان الأعمال التي تداولت منطقة شمال غرب آسيا الصغرى كمنطقة انتشار حضارة الدولمينات الأصلية تستوجب اهتماماً خاصاً. واستناداً الى الأبحاث المذكورة فان تريفونوف يؤرخ تاريخ الحضارة الدولمينية بمدة ألف عام (3400-3300 ق.م) وأكثر من ذلك (4200-4100 ق.م) وتبعاً لذلك يؤرخ تاريخ الحضارة المايكوبية الى (4700-4600 ق.م). ومن المؤسف أن قراءتنا لمقالات تريفونوف جاءت متأخرة قليلاً, وكان عملنا هذا قيد الطباعة, والا لكان الفصل الذي يتحدث عن الدولمينات مغايراً لما جاء. ومع ذلك فهو بهذا الشكل أيضاً يوضح بشكل جلي فكرة الجزيرة التي أنشأها سكان هذه المدافن على مدى لا يقل عن 2000 سنة.

ينوه تريفونوف بكلماته التي سننهي بها بحثنا هذا:

(عند تقييمنا بالمجمل صفات الحضارة الدولمينية فانه يجدر بنا أن نشير الى استقرارها الاستثنائي, وصورتها المتعاكسة بالمحافظة على القديم ونوعيتها وتكيفها مع الأشكال الحديثة للوجود بنفس الوقت. واذا نظرنا الى هذه الصفة على خلفية انقطاع السهول المتاخمة للقفقاس الغربي بحيث تبدلت فيها ثلاث ثقافات خلال فترة انشاء الدولمينات وكانت معايير الانتاج الحرفي عند الجبليين تتبدل فيها مع كل ثقافة .... فانها تبدو مدهشة للغاية).

حول تاريخ تأسيس مدينه مايكوب



عن نات برس – أصلان شازو

ترجمه: أحمد عزيز بيدانوق

يكتب نوربي لوفباج المرشّح للعلوم التاريخية ، رئيس قسم مركز الأبحاث العلمي في معهد موسكو الحكومي لشعوب الشرق"فرع الشمالي" حول أقدم تاريخ لتأسيس مايكوب :

تعتبر تلّة اوشاد ( تلّة فوق قبر قديم ) التي اكتشفها ن- فيسيلوفيسكي من سانت بيتربورغ في عام 1897 م، أقدم نصب عماري على أراضي مايكوب، و هي هضبه أرضيّة بقطر 60 م، و ارتفاع 11 م، اكتشف تحتها مدفن الزعيم الكاهن (أوشاد)، و هو بيت من ثلاثة أقسام جدرانه من جذوع الشجر. يضم المدفن رفات جثامين ثلاثة (القائد و امرأتان) بالإضافة لأدوات جنائزيّة ثمينة، و قد ثبّت حواف أسفل الردم الدائري ببلاطات حوّارية.

و يرجع علماء الآثار تاريخ تلّة أوشاد إلى الربع الأخير من الألفيّة الرابعة ق.م، أي لأكثر من 5 آلاف سنه مضت. و بعد مضي وقت ظهرت مجموعة مبان كانت تستخدم للتنجيم الزراعي مؤلفة من معابد الشمس متوضعة على أطراف الأشعة بكل اتجاهات الضوء الأربعة "ورود اللون ". و لا تزال هذه المعابد موجوده حتى يومنا الحالي في المدينه على شكل هضاب بأعمده و خنادق أو حلقات تحت أرضية من الحجاره. هناك هضبه بحواف مزدوجة "محاطه بالحجاره" جنوب أوشاد و على مسافة تبعد 1600 م عنه، على شارع "بودغورني" قرب التقاطع مع شارع "كربيجنوي" و شمالاً تم اكتشاف بلده "كوش" في البساتين الشمالية الشرقية و تبعد 1،5 كم عن أوشاد، و عثر فيها على بلاطة مايكوبية و عليها كتابات قديمة، و ليس ببعيد عنه وجد معبد الشمس "لعبادة الشمس" .

و على بعد ثلاثة كيلومترات شرقاً، اكتشف كذلك معبد آخر للشمس، وكان المدفن المؤقت لأوشادا. و بذلك الاتجاه أيضاً و على بعد 1 كم شرقاً و على السرير الثاني لنهر شحه كواشه (بيلايا) و بين شارع كورغاني الثاني و شارع كريستيانسكايا الثاني، تم اكتشاف معبد شمس آخر بحواف مزدوجة على شكل "ورود الريح"، واكتشف تحت ركامه رفات كاهن فقير، ولكن كانت له أهميته أيامها على مايبدو، يعود الرفات للألف الثالث ق.م.

و في عام 1964 م، قامت بعثة علماء آثار مشتركة مؤلفة من معهد العلوم والأبحاث العلمي الخاص بالتعابير اللغويه والثقافه الأديغي و المعهد العلمي الأبخازي للبحوث، بدراسة بلدة كوش و بساتينها الشمالية و الشرقية، و عندها تم اكتشاف معبد ماخوشكوشخا، على شارع "بودغورني" و كذلك "كوجيبا" على المدرج الثاني.

و في عام 1986 م توصّل علماء آثار بعثة معهد العلوم اللغويه الأديغي مع معهد الأديغي للعلوم الانسانيه الى اكتشاف دلائل لبلدة مايكوبسك الأثرية، والتي تعود للألف الثالث ق.م أي تقريبا قبل 5500 سنه.

أما الشعاع الغربي "ورود الرياح" فهي أطولها، و في عام 1983 م قامت بعثة لمتحف التاريخ المحلّي للأديغي بتسجيل معبد شمسي و عشرات الهضاب بين عزبه "كافيردوفسك" ومايكوب وعلى بعد 3،5 كم عن أوشادا.

وهكذا فإنه و بفضل علماء الآثار ما بين الأعوام 1897 – 1986 م، تم اكتشاف "جوقة مقدسة جليلة" على أراضي مايكوب، مركزها هضبه أوشاد و مدفن الجد المؤله فيها. فعلياً كانت الهضبه ذاتها معبداً ذو تصاميم خشبية خارجية مشتبكه ببعضها البعض، و لكنها لم تعد موجوده حين تم اكتشاف "فيسيلوفيسك".

من بين المعابد الشمسية التي تم احصاؤها و التي تقدر بحوالي 15، موزعة على تخوم المدينه، تعتبر هضبه أوشاد أكبر مركز ديني كان فعّالاً في العصر البرونزي في منطقة الكوبان، و الاحتمال الأكبر أنه كان أكبر مركز في كل منطقة غربي القفقاس.

اعتماداً على معطيات علم الكتابه القديمه و علم الآثار في الشرق الأدنى لآسيا، فإن المدن كانت تبنى قديماً حول المراكز الدينيه، و الأمثله غير قليله (إريد) في بلاد ما بين النهرين، و(أرينا – ألادجاغويك) في أناتوليا "تركيا" (تابسوك) على الفرات الأوسط على الحدود بين سوريا و تركيا.

و كهذه المراكز القديمه فقد بُنيت مدينه حول هضبه اوشاد، و تقريباً بعد ألفي عام من دفن أوشاد.

و حول تأسيس مدينه آيا أو ماي في عهد هوميروس في مكان مدينه مايكوب تخبرنا الكتابات و النقوش على بلاطة مايكوب التي تم اكتشافها عام 1960 م على الأطراف الشمالية الشرقيه للمدينه في المكان المسمى البساتين الشماليه الشرقيه. و تم نقلها بعد عامين الى لينينغراد للبحث، و استطاع العالم غ.تورجانينيف من متحف الاتحاد السوفيتي لعلم السلالات البشريه و الأثنوغرافيا من حل رموز الكتابات التي بينت أساس المدينه قبل 3200 عام في مكان وجود البلاطه.

في عام 1963 م نشرت الجريده الأدبيه في مدينه موسكو مجموعه مقالات حول الاكتشاف المدوي الذي يحوي أقدم كتابه وجدت على أراضي الاتحاد السوفيتي في مدينه مايكوب، و كانت المقاله صادره عن الأكاديمي ن.ميشانينوف و ف.ستروفي من لينينغراد، و كذلك العالم اللغوي ن.فينيكوف، و مدير المركز العلمي للأبحاث في أبخازيا غ.دزيدزاريا، و مدير مركز الأبحاث العلميه في الأديغي م.اوتلوف. و حالياً يُحتفظ بالبلاطه في متحف علوم السلالات البشريه و الأثنوغرافيه في سانت بيتربورغ برقم 6،550. و لقد نشر غ.تورجانينف ثلاثة كتب عن رسومها و صورها و حل رموزها، الأول عام 1971 م في لينينغراد، و الثاني 1991 م باللغه العربيه في عمان، وعام 1999 م في موسكو.

و كذلك صدرت مقالات نقديه بحق غ . تورغانينف على اكتشافه صادره عن علماء سوفييت مشاهير، اللغوي ن.دياكونوف، المؤرخ ي.كروبنوف، و المؤرخ الأديغي ب.اوتلوف .

و خلافاً عن غ. تورجانينيف الذي تعرف على قراءة الكتابه المايكوبيه المخطوطه باللغه الأبخازية القديمه بمساعدة الكتب المقدسه، فإن الباحث المايكوبي المعاصر ن.لوفباجي قد قرأ معلومه تأسيس مدينه ماي بلغه الحثيين و حصل على تاريخ أكثر دقه لتأسيسها (1200 – 1190) ق.م، و تم نشر فك شيفره الكتابه الذي تعرف عليه ن. لوفباجي في جريدة "أديغه ماق" صوت الأديغة في 5 تشرين الأول عام 2001 م باللغة الروسيه.

ولاحقاً أظهرت دراسات علم الآثار و الدراسات التاريخية و علم الكتابات القديمة و الدراسات الفلكلورية لتاريخ عاصمة الأديغي عن استمرار تواجد مجمع المدن مكان مايكوب الحاليه في كل الأزمنة.

أما الشكل التخطيطي للمعلومات حول وظائف مركز المدينة و حول مصممي بنائها فإنه يبدو كالتالي:

1- حسب قراءة اللهجة الهيروغليفية الحثية للعالم ن.لوفياجي، يعتبر أول من باشر بمدينه ماي هو كوسوتافا كاهن اله الحثيين (خيباتو) في عهد آخر ملوك الدوله الحثيّة سوبيلويومي الثاني حيث بنى المدينة بإقامة مساند في أقسام القصر الدفاعية الموجوده وراء النهر. وهناك رسم لمخطط مدينه ماي (آيا) على البلاطة المايكوبية ، بحيث يظهر في مركز المدينة (في مكان هضبه أوشاد) معبد بشكل متصالب بأعمدة خشبية كثيرة العدد، و مبنى الحدادة و المكتبة في القسم غير الأساسي من القصر ، أما الحدائق ففي الركن الشمالي الشرقي.

2- أما الشخص الثاني المعروف في بناء المدينة، التي كانت تسمى أيام الحضارة اليونانية و الرومانية القديمة أوركيديا ، فقد يكون الأمير خاجوكو رئيس البلدية الفرضي لمدينة اوركيديا في منتصف القرن الرابع ق.م. شيد هذا الأمير التلال الشاطئية اليمنى لنهر بساتي- شحاكواج ( بيلوي) و شيد القلعة على الضواحي الجبلية في الجنوب الشرقي. أما المعلومات عن هذا القائد لقبائل الأفخاذ الأبازينية القديمة فتم الحصول عليها من القلنسوة الذهبيه (الغطاء) لهضبه كورجيبس. و تم إعادة رسوم 100 علامه للغطاء من قبل ل.غالانين في كتاب "هضبه كورجيبس" الذي صدر في لينينغراد عام 1980 م ، أما حل رموز الكتابه فقد قام بها ن.لوفباجي في عام 2004 م صفحه 221-240 من كتابه(البشير).

3- المشرف و المنظم الثالث للبناء و خصوصا القسم اللذي يضم القصر والقلعة في أوركيديا أي قلعة باستسكوي هو الأمير فاتي أريفان عام 309 ق.م ، الذي انسحب الى قلعة باستسكوي بعد هزيمتة في المعركة المفتوحة مع الباسبوري ساتيرا، و سعى الى تقوية القلعة، و صمد أخيراً أمام حصار الباسبوريين، و استطاع قتل ساتيرا و كسب الحرب بمساعدة شقيق الملك الباسبوري إيفميل.

4- في القرنين 4 – 5 ق.م و خصوصاً في منتصف القرن الرابع ق.م و خلال عدوان الخان الأواري بايكان ، كانت قلعة بيتابا المايكوبيه عند منعطف نهر شحاكواشه (ساغفاشي) ملجأ عرضيا و قاعدة ارتكاز بالنسبه للافريستان خاميشيسك الذي تزعم قتال الأديغ ضد الاواريين، و ذلك حسب ما جاء في كتاب "تاريخ الشعب الأديغي" للكاتب ش.ناغموف.

في تلك الفترة قامت أعمال هندسية مميزة على قلعة مايكوب القديمة. و من المحتمل أنها ظلت على وضعها حتى زمننا الحالي دون تغييرات تذكر (خصوصاً شكلها الأساسي).

و رغم الزمن العصيب فقد اقتصر النزوح الكبير للشعوب الى قسم (ما وراء النهر) حول قلعه أوخ.

5- في نهاية القرن الثامن و بدايه القرن التاسع، أيام حكم اينال دريفني، استفاد المايكوبي بيتابا الذي يحمل نفس اسم القلعه الواقعه على نهر فارز بجبال فيزيابغو-2 من الأميرأزديمير في صراعه ضد تسلط الخزر، و بالتحديد ضد رئيس بلديه الخزر اينال وكل ذلك مذكور في كتاب "تاريخ الشعب الأديغي".

6- أما القسم الواقع على الضفة اليمنى من مايكوب و الذي يشكل مركزاً لمنطقة مينيلي، فقد تم تشييد أبنيته و استثماره من قبل غيورغي بيوبيرتي في نهايه القرن 12، و على الأرجح أن هذا القائد كان رئيساً لدير كنيسه القديس غيورغي الذي شيّدت أساساته في نهايه القرن 19 قرب مدينه خانسكوي. و يحتفظ ببلاطات ذات رسوم ناتئة من هذه الكنيسة في متحف الفنون بجورجيا، و بعض القطع المعمارية في المتحف القومي للأديغي.

و من المحتمل جداً أن تكون تسمية "مينيليبس" أو "مينيليا" قد أطلقت على المدينه حسب المبدأ اللذي كان سائداً حينها في تسمية المدن باللغة الأديغية.

7- في العصور الوسطى المتقدمة "القرن 13 -16" استمر وجود مركز المدينه مكان وجود مايكوب الحالية (قلعة آوخ ، مينيليبس) مع ازدياد ازدهار الحياة المدنيه. و انتشرت القرى و الهضاب المتفرقة حول المركز العصري حينها. كما تم اكتشاف قرية في السهول المجاورة لنهر كورجيبس. و عثر فيها على منتجات خزفية و معدنيه معقدة و عالية الجوده، و على دلائل ماديه لوجود الحياكة حينها، و فن صناعة المجوهرات، و النقش على العظام، و التعامل مع الحجر، و دلائل عديده لوجود التجاره (قطع نقود، زجاج مستورد، بورسلان، سيراميك).

إن أرفقنا كل هذه بمكتشفات هضاب بيلوريجينسك المعروفة لحصلنا على لوحة ناصعة لتطور الحياة المدنية في شمال القفقاس.

من بين الأسماء و الألقاب المشهورة لذلك الزمن اثنان :

* أمير البيسلاني الرئيسي إلجيروقه قانوقه و كان مقرّه على الأغلب على نهر لابا في القسم الجبلي من مدينه بيسلاني. و قد كتب عنه لاحقاً في منتصف القرن 17 الرحالة التركي إفليا جيليبي.

* و الى قرب مدينة مينيليبس (أو كما تسمى فيما بعد خيليبس) يعود تصورالأصل السفانسكيي للأصلاني (أرسلانوقه)،المقيد اسمه على الجاروف الفضي رقم 21 المكتشف في تلة بيلوريجينسك، و كان له في ذلك الزمن وزناً و قدرا ًفي المجتمع الأبازيخي.

8- في منتصف القرن 17، يبين إيفيلي خيليبي أماكن و مضارب و جبال "جاكال". ويترامى الى السمع هنا الكلمة التركية مدينه "كالي" و الكلمه الأوبيخية (شا - جا – رأس) أي باللغه التركيه "المدينه الرئيسيه".

و بما ان جيليبي في كتاب الرحلات الصادر في عام 1979 م يسمي جبال خاكال جبالاً أبخازية، فإنه يجدر الأفتراض بان المدينه قد كانت مركزاً لقبائل الأبزاخ "ابازيخ" المكونة من الأباظه (الأبازين) و الأوبخ و شراكسة سهول ما وراء الكوبان.

و حسب الآثار المكتشفة في قريه كورجيبسك، فاننا نلاحظ هنا أيضاً بين الشعارات و الدروع ما يدل على عشيرة خاجوكو. و من المرجح أن يكون ممثل هذه السلالة الأبازينيه القديمة قد ترأس القسم الحرفي في مركز المدينه.

9- في منتصف القرن 18 و حسب شرح الفرنسي آبري ديلاموتر، فان المدينه التي كانت مكان مايكوب سميت بمدينه خيليبس، ولعل ذلك يعني مركز (روح) القبيله أو العشيرة، جيليبس أو خيليبس باللغة الأبازيخية.

و نستطيع قراءة مقاله هذا المؤلف في كتاب "الأديغة، البلقر، و القاراشاي في نشرات المؤلفين الأوروبيين ما بين القرون 13 – 19) الصادر في نالتشيك عام 1974 م.

10- في النصف الأول من القرن 19 أصاب مدينه "خيليبس" انحطاط كبير، و توزع على أرضها ما لا يقل عن عشرة قرى "قواجه" توضعت سته منها على ضفتي نهر ساغفاشي، و نستطيع التعرف عليها من الأطلس الجغرافي الروسي لعام 1905 م. توضعت قرى تيغاناي، داور حابله، باغاديرحابله على الضفه اليسرى، أما على الضفه اليمنى فكانت بغواشي حابله قرب تلة أوشاد، و سيكو حابله جنوباً على ضفه النهر بالإضافه الى كوخوج حابله (كوغوج حسب خارلاموف، حيث كانت تجاور الحصن الروسي عام 1857 م).

بالاضافة الى "القواجات" الثلاثة الكبيرة المذكورة، فقد انتشر على السرير الثاني لنهر ساغفاشي قرى "حابله" صغيرة عائلية (على شكل العزبة) لا يفصل بين الواحدة و الأخرى أكثر من 1 كم، و توضعت ما بين مستشفى الأمراض المعدية الحالي وصولاً الى المنطقه الصناعيه و تدلنا على ذلك الغلايين "الغليون" الشركسية التي كانت تُنتج بالجملة من الطين النضيج، و اللتي تختلف عن التركية المستوردة بعدم وجود الغطاء.

ينتج من ذلك ان تركيبة سكانية لا يستهان بها قد استوطنت مساحات مايكوب الحالية قبل تأسيس القلعة الروسية في أيار 1857، رغم أنها لم تكن تحتشد و تتركز بشكل متراص حسب مبدأ و مفهوم المدينة الوروبية. أما البيانات التي تقول بأن وجود القوة الحربية الروسية في هذا المكان لم يمر بدون ألم و سفك للدماء بالنسبه لسكان خيليبس الأديغة فتؤكده الاحصائيات الحربية للأيام الأولى و الشهور و السنوات التي تمركز فيها الحصن، فقد نشبت المعارك المتواصلة مع الجبليين ابتداءً من مجيئ فرقه تينغينسك تحت قيادة الجنرال كوزلوفسكي الى مضارب مايكوب في 3 أيار، و نتيجة لغارات الشراكسة المتواصلة على الحصن الروسي المبني على سفوح جبال مايكوب قرب قريه خاجيميز (يغيروخايفسك لاحقاً ، و قريه تولسكي الحالية) تم نقل الحصن الى مكان "البازار– السوق القديم" في 18 أيار 1857، و استمرت الغارات ما بين 20 -26 أيار على القلعة. ثم استؤنفت بقوات جديدة ابتداءً من 14 حزيران و لغاية 25 منه و تجددت في أيار من العام 1958 من أجل الأستحكام من مايكوب.

و في عام 1958 جرت معارك الجيش الروسي بشكل أساسي مع الأبازيخ، و مع الماخوشيف كل شهر لحتى نهاية تشرين الثاني من أجل السيطرة على مدينه مايكوب، جرت المعارك على نهر كورجيبس، و نهر فارز، و سيرال أول، أي بمنطقة مايكوب كلها. و استمرت المعارك حول مايكوب خلال العام 1862. وهذا مخالف لما جاء في أقوال خارلاموف حول انشاء القلعة الروسية السلمي الى حد ما، ويثبت بأن هذه الفترة كانت الأكثر امتداداً و عنفاً و سفكاً للدماء من قبل الأمبرطوريه الروسيه في منطقة مايكوب.

نستطيع مطالعة المدونات التاريخية للحوادث الحربية التي جرت على منطقه مايكوب و ضواحيها ما بين 1857 – 1868، ضمن تاريخ فوج دراغونسكي نيجيغورودسك، و في مذكرات بوتو من فوج تفيرسكي.

و لكن و بغض النظر عن هذا الاستنتاج فإن هذه الأحداث التي استمرت لخمس سنوات و مع مقارنتها مع كل المجريات السابقة في تاريخ مايكوب منذ العصور السابقة فإنها تبدو مجرد واحدة من المشاهد المتأخرة، أي أنه لم يحدث شيئ جديد أو غير اعتيادي في العام 1857 في منطقة مايكوب سوى اضافة رواية روسية و هي اضافة الأستحكامات و يعتبرتحويل القلعة الى مدينة في ايلول 1867 استئنافا لقيام مركز المدينة و متابعة لتاريخ مدن ماي ( آيا) أوركيدا ، آوخ ، مينيليا ، جاكال ، خيليبس .



الجينويون في شيركيسيا

المؤرخ: سمير خوتقوة

ترجمة : زاور شوج

إن تاريخ شيركيسيا في الفترة مابين القرنين الثالث عشر والخامس عشر معروف أكثر بالمقارنة مع الفترات الأخرى. ويعود الفضل في شهرة هذه المرحلة من تاريخ شيركيسيا إلى المؤرخين والرحالة الإيطاليين. من بين أشهر من كتب عن شيركيسيا في تلك الحقبة مجموعة من المؤرخين من جينوة والبندقية وفلورنسا.

كانت تمثل البندقية وجنوة ابتداء من القرن الثاني عشر أهم مركز اقتصادي وتجاري في اوربا. فقد كانت البندقية وجنوة تتمتعان بنظام جمهوري ديمقراطي يعتمد على نظام انتخابي. وفي مجال التجارة البحرية لم يكن هناك منافس لهما من دول البحر المتوسط. كانت جنوة والبندقية تسيطران على سوق تجارة الحبوب والتوابل والسلاح ومواد البناء وتجارة العبيد.

في عام 1260 استطاعت بيزنطة بعد انتظار طويل من طرد الصيلبيين من العاصمة القديمة طرابزون وتمكنت من إعادة توحيد الإمبراطورية البيزنطية. هذه العملية العسكرية الناجحة تمت بمساعدة أسطول جنوة. وبحلول العام 1261 وقعت بيزنطة وجنوة اتفاقا يمنح الأخيرة حقوقا واسعة للنشاط التجاري في منطقة المتوسط وحوض البحر الأسود. الإتفاق الذي حمل تسمية "عقد نيمفي" منح فوائد لجمهوريات تجارية إيطالية أخرى. بعد ذلك في عام 1265 سمح قيصر بيزنطة ميخائيل باليولوغ للبندقية الدخول إلى حوض البحر الأسود إلى جانب جنوة ولكن النفوذ الرئيسي في البحر الأسود بقي لجنوة.

قامت جنوة بنشر أهم مستعمراتها التجارية بالقرب من فيودوسيا القديمة الأنتية (قافا). الجنويين احتفظوا بهذا الاسم لمستعمرتهم الجديدة. ويعيد كثير من المؤرخين تسمية (قافا) إلى أصول شركسية نظرا للتواجد الكبير للأديغه بالقرم في مختلف الأزمنة. دجيمس بيل الذي عاش لفترة طويلة في غرب شركيسيا يذكر وادي قافا في منطقة بشاد. مصادر جنوية كثيرة تعيد تأسيس قافا إلى العام 1266.

كانت زيخيا أهم شريك تجاري لقافا الجنوية. في الفترة مابين القرنين الثالث عشر والخامس عشر انتشرت في المنطقة بين تانوي (أزوف) وسوخوم التي كان سكانها من الأديغه ابخاز 93 مستوطنة تجارية سكانية جنوية. كل هذه المناطق - التي كانت عبارة عن أزقة وشوارع وحوانيت – توضعت بالقرب من المدن والقرى الساحلية الزيخية (الشركسية). إن استطيان الجنويين في زيخيا تم بموافقة الأمراء الزيخيين المحليين, وكانوا يدفعون لزعماء الزيخ الدان (الخوة أو الضريبة), ولم تكن تملك هذه المستوطنات حقوقا إدارية أو سياسية. كانت قافا المدينة الجينوية الوحيدة التي تملك حقوقا إداريا وسياسية وكانت محددة بالوضع الجغرافي للمدينة. فشرق القرم لم يعد في تلك الحقبة تحت سلطة زيخيا, كما أنه لم يكن تحت سلطة تتار القرم بعد. كانت قافا تملك بفضل ذلك إمكانية كبيرة للمناورة السياسية معتمدة على دعم الزيخ (الشراكسة) لهم ضد التتار, وفي نفس الوقت على دعم التتار في حال خلاف قافا الجينوية مع زيخيا.

وعلى الرغم من الوزن الاقتصادي الكبير للمستوطنات الجينوية إلى أنها لم تكن تملك وزنا سياسيا قانونيا, وكانت أشبه بسوق تجارية حرة على أرض غريبة.

لم يكن يوجد في معظم المستوطنات الجينوية في زيخيا سفارة لقافا, على سبيل المثال, لم يكن هناك سفير لقافا في ماتريغي مع أن هذه المدينة كانت واقعة على مضيق كيرش ليس ببعيد عن قافا وكانت تعد من أكبر مدن زيخيا مساحة وكثافة سكانية.

الانتشار السكاني الكبير للجنويين تركز في المدن الساحلية التالية: مابا (أنابا), باتيار (باتسمز وحاليا نوفورسيسك) وكوبا (سلافيانسك نا كوباني حاليا). كانت هذه المدن تخضع لسلطة أمراء زيخيا ولم يكن يتواجد فيها حاكم تابع لقافا.

كل المنطقة بين الدون والكوبان بمدنها الجنوية إيل بشي – كوبا – كاباريو – سانتا كروشي – باكيناخي – بالزيماخي – سان جورجيو – لوترا, كانت تتبع لأملاك الأمراء الزيخ (الشراكسة). من بين هؤلاء الأمراء أسماء ذكرتها المصادر الإيطالية: بيلزبوك (بيلزيوقوة) – بارسباك (بارسباي) - بيبرد – كيرتبي – بيترزوك وغيرهم. كان يحكم مدينة ماتيرغي وشبه جزيرة تامان في أواسط القرن الخامس عشر الأميران الزيخيان كوستوموخ (كوستوموقوة) وكاديبيلد (قاديبلد), ولكن لاتوجد معلومات كافية عن عمق مساحة املاكهم داخل زيخيا. إضافة إلى ذلك كان يملك أمراء الزيخ أراض كثيرة في شرق القرم. من بين هؤلاء الأمراء:

- فيرزاخت الذي كان يراسل بابا الفاتيكان يوحنا الثاني عشر, والذي كان مسيحيا كاثوليكيا متعصبا, وكان يحكم تشيركيا أو كيرش كما أصبح اسمها اليوم من العام 1320.

- ميلين والذي حكم تشيركيا أو كيرش من العام 1330 والذي كان ايضا كاثوليكيا متعصبا.

- زيخي غريشيسكي جاركاس والذي كان حاكما للقرم بين العامين 1379-1386.

- شيركيس بيك او جانكاسيوس زيخ والذي كان من أنصار ماماي التتاري والذي أعلن عام 1379 التعبئة العامة لدعم ماماي في معركة كوليكوفو. في عام 1380 أحرق 18 مستوطنة جينوية حول قافا كعقاب على رفض إدارة هذه المنطقة في تنفيذ قرار التعبئة العامة الذي أعلنه. وحافظ على منصبه حتى بعد موت ماماي ووصول تاختامش لزعامة الأوردا الذهبية. توقيع جانكاسيوس زيخ موجود على الإتفاقية التي وقعت بين قافا والأوردا الذهبية, حيث يتضمن البند السادس من الإتفاقية أن يعيد القرى 18 التي احتلها حول قافا. إن احتفاظ جانكاسيوس زيخ على منصبه وسلطته في أجواء العداء الكبير بين ماماي وتاختامش لدليل على إستقلالية الأمير الزيخي عن الأوردا الذهبية وقافا.

تذكر المصادر التاريخية الإيطالية رسالة بابا الفاتيكان يوحنا الثاني عشر للأمير الشركسي فيرزاخت والتي تعود للعام 1333. في هذه الرسالة يشكر البابا الأمير الشركسي على اعتناقه الكاثوليكية ونشرها في منطقة كيرش. وتذكر الرسالة ايضا سعادة البابا لاعتناق الأمير الشركسي ميلين للكاثوليكية.

في بدايات القرن الخامس عشر كان لدى الشراكسة مطرانية كاثوليكية. وكان المطران فرانتسيسكان يوحنا أول رجل دين كاثوليكي يصبح مطرانا في شيركيسيا التي وصلها في عام 1349 وكان من أصول شركسية أرستقراطية. وقد نصب رسميا في هذا المنصب الديني حسب أرشيف الحبر الأعظم من قبل بابا الفاتيكان كليمني السادس في روما عام 1346.

إن العلاقة بين الجنويين والشراكسة تميزها أشياء كثيرة, من بينها ان القوة العسكرية الجنوية الوحيدة المنظمة في قافا وفي كل زيخيا والتي كانت تسمى أورغوزي كان قوامها من المرتزقة الشراكسة. هؤلاء الشراكسة أسسوا شرطة مدينة من الخيالة, وكانوا يحصلون على رواتب عالية تسمح لهم بممارسة العمل التجاري الصغير إلى جانب الخدمة العسكرية.

يقول إدموند سبنسر: "إن الشراكسة الذين مارسوا على مدى قرون طويلة القتال من جهة والنهب من جهة أخرى, وفي نفس الوقت أصبحوا حراسا لسلاطين مصر وتركيا وخانات القرم, هؤلاء كانوا يسمون بالكاساك أو القزاق. هذه التسمية كانت تحملها كل قبيلة تتبع نمط الحياة المذكور". وتتميز الفترة بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر بأنها شهدت هجرة كبيرة للشراكسة إلى مناطق زاباروجيه (أوكرانيا حاليا) والتي أصبح يطلق عليها اسم شيركيسيا حتى أواخر القرن الثامن عشر. مصادر كثيرة تتحدث بهذا الصدد عن المنشأ الكاسوغي الشركسي لقزاق زاباروجيه.

على مدى 209 سنوات من العلاقات بين الجينويين والشراكسة لم يحدث أي خلاف عسكري سببه أمراء زيخيا أو سفراء قافا أو حكومة جينوة. هذا التعايش السلمي أملته المصلحة المشتركة للطرفين. وإذا كان الأمراء الشراكسة بسبب سايكولجيتهم التي تجعلهم لايتعلقون بالتجارة فإن الجينويين كانوا تجارا بالطبيعة وكانت التجارة بالنسبة لهم نمط حياتهم الأساسي. لقد ملأ الجينويون الفراغ الاجتماعي والاقتصادي الذي خلفته عقلية المحارب الشركسي, وهذا الفراغ استمر أجانب في ملئه بعد الجينويين حتى نهاية حرب القوقاز.

من اهم مجالات النشاط التجاري للجينويين في زيخيا كانت تجارة الرقيق وتصدير الجنود الذين كانوا يرفدون جيش المماليك. إن نقل العبيد من شركيسيا إلى مصر أخذ في تلك الحقبة (حقبة الأيوبيين) توسعا كبيرا. بعد ذلك في العام 1262 وقع الظاهر بيبرس إتفاقا مع امبراطور بيزنطة ميخائيل الثامن باليولوغ ينص على حصول المماليك على حرية وصول سفنهم إلى البحر الأسود. في العام 1280 إتفاقية مماثلة وقعها السلطان قالوون مع امبراطور بيزنطة. في مدينة قافا تم إنشاء مكتب خاص لممثلي السلاطين المماليك من أجل شراء العبيد.

وإن كانت بيزنطة غير قادرة على الوقوف في وجه التحالف بين الجنويين والمماليك, فإن محاولات حثيثة لمواجهة هذا التحالف تمت من قبل بابا الفاتيكان والسفن القبرصية. ففي عام 1311 وقع بابا الفاتيكان كليمنتي الخامس وملك قبرص هينري الثاني دي لوزينيان إتفاقية للتعاون المشترك في منع نقل العبيد من شيركيسيا إلى مصر. وقد استطاع لوزينيان منع وصول دفعات من العبيد إلى مصر على متن سفن الجينويين أعوام 1317, 1323, 1239, 1338 و 1425. ولكن لم تكن هذه المحاولات كافية ومؤثرة بالشكل المطلوب لوقف التصدير الكبير للعبيد إلى مصر.

في نتيجة الأمر حافظ الجينويون على معظم سوق النخاسة في منطقة البحر الأسود. في عام 1379 وقع الجنويون إتفاقية جديدة مع السلطان المملكوكي البحري حجي الثاني (السلطة الفعلية كانت بيد مستشاره برقوق الشركسي) تنظم عملية نقل دفعات جديدة من المماليك من شيركيسيا إلى مصر. يكتب إمانويل بيلوتي أنه في عام واحد هو 1420 حصل سلطان القاهرة على 2000 مملوك من مدينة قافا. بيلوتي لم يخفي استياءه من تصرفات الجينويين وتعطشهم للثروة عبر تجارة العبيد الأمر الذي زاد من قوة المماليك العسكرية. كان القسم الأكبر من هؤلاء العبيد شراكسة مع وجود بعض الروس والتتار.

في عام 1432 وقع السلطان بارسباي إتفاقية مع إدارة مدينة قافا الجنوية تسمح لوكلائه بنقل العبيد الذين يتم شرائهم في هذه المدينة بدون رسوم. يقول الأرستقراطي الإيطالي بيرتراند ديلا بروكفير الذي زار سوريا وفلسطين في عام 1432 إنه التقى في دمشق بوكيل السلطان بارسباي في قافا وهو جينوي اسمه جينتيلي إمبيريالي, ولاحظ الأرستقراطي الإيطالي أن وكلاء السلاطين في شيركيسيا كانوا في معظمهم جنويين.

أصبحت قافا الجنوية على مدى سنوات وجودها (1266-1475) نقطة عبور لآلاف العبيد من شيركيسيا الذين رفدوا صفوف جيش المماليك في مصر.

الشيء الوحيد الذي كان يعكر صفو العلاقة الاستراتيجية الجيدة بين شيركيسيا وجنوة القراصنة الشراكسة والأبخاز الذين كانوا يمثلون مجتمعا حرا مستقلا لايخضع لأي سلطة على طول الساحل الشركسي الأبخازي. كل الإتفاقات التي وقعتها جينوة مع أمراء الشراكسة كان يخرقها الجبليون الأحرار. فالجبليون الزيخ والكركيت والغينوخ والآخيون كانوا مشهورين بقرصنتهم منذ القدم. النشاط الأكبر للقراصنة كان في منطقة مضيق كيرش الاستراتيجية بالنسبة لسفن قافا المتجهة إلى أنابا. وكانت خسائر سفن جينوة تصل في هجوم واحد إلى 50 الف أسبر. عدم قدرة قافا على معاقبة القراصنة والتصدي لهم كان يتسبب في شلل كامل للتجارة البحرية لعدة اشهر.

إن طبيعة وروح العلاقة بين الشراكسة والجينويين تتجسد بشكل جلي في فترة حكام كاباريو بيلزيبوقوة وبارسابوقوة. كانت تملك باباريو تاريخا قديما قبل أن تصبح في أواخر القرن الثالث عشر قبلة لعدد كبير من التجار الجينويين الذين استقروا فيها. في العصور القديمة كانت توجد هناك مدينة سيندية كبير (نسبة إلى دولة السيند الشركسية القديمة), والتي كانت محاطة بمناطق سكانية وتجارية كثيرة. كانت مدينة كابريو أو كوبا تقع على بعد 28 ميلا إيطاليا عن مصب نهر الكوبان وكانت ثاني أكبر مدينة ومركز تجاري بعد ماتريغي في دولة الزيخ. في نيسان من كل عام كان ينظم في هذه المدينة سوقا تجارية كبيرة (معرض). في الوقت ذاته كانت كوبا بعيدة عن وصفها بمدينة هادئة مستقرة كونها كانت التفاحة التي يتنافس عليها زعماء الزيخ. كما هو الحال في ماتريغي كان معظم سكان كوبا مديونين لتجار جنويين من قافا. عدم قدرة سفراء قافا على تحصيل الديون كان بسبب دفاع زعماء الزيخ عن مواطنيهم. إضافة إلى ان عددا كبيرا من هؤلاء الزعماء كان مديونين بمبالغ كبيرة لتجار قافا وكانوا يكتفون بالوعود لتسديدها دون أن تتمكن قافا في تحصيل شيء.

عل مدى العقد السادس من القرن الخامس عشر كان أمير كوبا بيلزيبوقوة يعد باعتقال المستدينين وارسالهم إلى قافا ولكن لم يتم تنفيذ هذه الوعود ولامرة. حتى أن الأمور وصلت إلى رفض بيلزيبوقوة إعادة القروض مما جعل ظهوره في قافا أمرا مستحيلا بسبب توعد سلطات قافا باعتقاله ومحاسبته في حال جاء إلى المدينة.

رفض زيخيا دفع القروض المستحقة لقافا أوصل العلاقة بين الزيخ والجنويين إلى مرحلة المواجهة العسكرية قرب كوبا. في عام 1471 جهزت إدارة قافا أسطولا صغيرا لحماية السفن التجارية المتوجهة إلى كوبا. هذا التصرف زاد في توتر العلاقة بين كوبا وقافا. الزيخ بدأوا يهاجمون القوافل البرية المتوجهة إلى قافا مما دفع إدارة المدينة الجنوية إلى منع الجنويين من العمل والتجارة مع كوبا. كتب قنصل ماساري في 18 ايار 1471 إلى بنك سان جورجيو في جنوة يقول: "فيما يتعلق بالخسائر والمخاطر الكبيرة التي تكبدها زيخيا يوميا لتجارنا في كوباريوو فقد قررنا في هذا العام منع التواصل التجاري مع هذه المدينة مالم نوقع مع هؤلاء الزيخيين إتفاقية جديدة تحفظ حقوقنا". إدارة قافا عقدت أمالا كبيرة على هذه الاجراءات العقابية للضغط على بيلزيبوقوة لتطبيق التزاماته. في العام 1471 كتب القنصل يقول: " إن النجاح مضمون لأن زيخيا بقيت بدون ملح الطعام. الزيخ كانوا يحصلون على الملح من التجار الجينويين. عدم توفر الملح جعل من الصعب على الزيخ تحضير السمك غذائهم الرئيسي". الأحداث اللاحقة تظهر أن ساسة جينوة لم يخطئوا في استراتيجيتهم حيث أجبروا أمراء الزيخ على توقيع إتفاقية جديدة تضمن حقوق قافا التجارية. في هذا الخصوص كتب قنصل قافا أبيرتو سكارشيافيكو إلى حكومة جنوة: "لقد تمكننا من تحقيق مطالبنا واجبرنا أمراء الزيخ بيبرد وبيترزوقوة وبيلزيبوقوة على توقيع إتفاق يحقق المكاسب لتجارنا ويضمن حقوقهم". بعد توقيع الإتفاقية انشأت على الفور عشرات المحاكم وظهرت ممثليات إدارة قافا في كل المدن الزيخية الكبيرة.

كما أظهرت الأحداث اللاحقة فإن التفائل الكبير من الإتفاقيات الموقعة كان سابقا لأوانه. فقد قام الأمير بارسباك - الذي تصنفه المصادر الإيطالية كأحد حكام كوبا وحليف بيلزيبوقوة – بمصادرة بضائع تجار قافا الجينويين الذين يعملون في كوبا. من بين المتضررين كانت شخصيات جينوية رفعية المستوى مثل غريغوريو دي ماريني. التجار الجينويون راسلوا إذارة مدينة قافا وطالبوها ببذل كل جهودها لتعويض الخسائر التي تعرض لها التجار في كوبا ولكنهم عارضوا في الوقت ذاته أي حصار لزيخيا. اضطر الجينويون إلى التفاوض مع بارسباك الذي أثبت انه الحاكم الحقيقي للمنطقة. المفاوضات أوصلت إلى إتفاق جديد بين قافا وزيخيا وقع في 15 كانون أول 1472 ولقي استحسانا من التجار الجينويين والزيخ على حد سواء.

كما نرى فإن التجارة مع زيخيا كانت مهمة بالنسبة للطليان على الرغم من الأخطار المرافقة, وسعى الجينويون دائما إلى الحفاظ على علاقات متينة مع زيخيا وحل كل المشاكل العالقة. لكن بعد فترة وجيزة فاجأ بارسباك قافا وجنوة بإتفاقه سرا مع احد تجار قافا الذي بدأ يجلب له على متن السفن كل ماتحتاجه زيخيا. هذا التاجر بنى للأمير الزيخي قلعة كبيرة في مدينة كوبا وحصل على امتيازات كثيرة من بارسباك. بناء القلعة لم يترك اي انطباع لدى الزيخيين الذين كانوا يعتبرون بناء القلاع والتحصن خلف جدرانها دلالة على الجبن والضعف. قام التجار الجينويون بتطبيع العلاقات مع بقية امراء الزيخ في محاولة لتحريضهم على بارسباك عبر إخافاتهم من ازدياد نفوذ الأخير الذي قد يقضي على بقية الأمراء وينفرد بالسلطة في زيخيا. لكن للأسف لايوجد في المصادر التاريخية معلومات عن نتيجة المؤامرات الجينوية وفيما إذا نجحت في تحريض الأمراء على بارسباك.

سياسة بارسباك التي أثارت استياء الجينويين دفعت بنك سان جورجيو إلى اتخاذ قرار يمنع التجار الجينويين من توريد مواد البناء التي يمكن ان تساعد الزيخ على بناء القلاع على سواحل البحر الأسود. كما منع القرار التجار الجينويين من التعامل التجاري مع بارسباك واعوانه وشركائه. لكن هذا القرار تم انتهاكه من قبل نفس التجار الجينويين من قافا كون التجارة مع زيخيا مهمة ومربحة على الرغم من كل الصعوبات والمخاطر.

كان الجينويون والطليان عموما ينظرون إلى الزيخ على أنهم قبائل ملكية تتمتع بالشجاعة واللئم في آن واحد. كانت المراسلات بين قافا وجينوة في العام 1473 تصف الزيخ باللئم والغدر

كان الجنويون يصفون التتار الذين يشنون غزوات على الروس والشراكسة بالشجعان الأغبياء. فالتتار كانوا يتجنبون الظهور في شيركيسيا بدون اسباب تبرر لهم هذا التواجد كالسفر من القرم إلى استراخان. الجنوي جورجيو انتريانو الذي عاش في شيركيسيا على مدى الربع الأخير من القرن الخامس عشر كتب عن الغزوات المستمرة للشراكسة على القرم: "كان الشراكسة يغيرون على السكيف (يقصد هنا تتار القرم) ويجبروا قواتهم الكبيرة على الفرار, فالشراكسة مسلحون افضل تسليح وجيادهم أفضل كما أنهم يتمتعون بشجاعة لاتوصف".

وقد وصف انتريانو الشراكسة في مصر "بحكام العالم العظماء". لم يتغير رأي الطليان عن الشراكسة في القرن السابع عشر. ادموند دي أسكولي رئيس البعثة الدوميكانية في القرم (1624-1634) كتب في مذكراته عن الشراكسة: "الشراكسة يفتخرون برقي دمائهم, والأتراك يقدمون لهم احتراما عظيما, حيث كانوا يسمون الشركسي سباغا وتعني الراقي العظيم".

العلاقة بين زيخيا وجنوة شهدت تطورا سريعا, ففي العام 1462 وقع الجينويين إتفاقا مع بيلزيبوقوة حول تبادل وإعارة القوة العسكرية. دافيد آخر امبراطور لطرابزون كتب رسالة إلى الدوق الجينوي بورغونديي المؤرخة 22 نيسان 1439 اعتبر فيها الزيخ من ضمن حلفائه في الحملة الصليبية الموجهة ضد العثمانين.

تمتع زيخيا (شيركيسيا) بأهمية استراتيجية في منطقة حوض البحر الأسود مرتبط أيضا بأنها وابتداء من العام 1071 كانت المصدر الرئيسي للحبوب إلى الامبراطورية البيزنطية. فبعد هزيمة بيزنطة في مانتسيكوترا على أطراف قسطنطينوبل وخسارة كل الأراضي الزراعية في الأناضول التي وقعت تحت سيطرة السلاجقة أصبح استيراد القمح والحبوب من شيركيسيا طريق الحياة للمدن البيزنطية المتبقية على السواحل الجنوبية للبحر الأسود. فدولة طرابزون (01204-1461) والمدن الجينوية المحيطة بها أصبحت مقطوعة من قبل السلاجقة والعثمانين عن الأراضي الزراعية الاساسية التي كانت تغذيها في خيران وبايبرتا, ولذلك اصبحت زيخيا مصدر الغذاء الرئيسي لطرابزون وقسطنطينوبل.

ابتداء من العام 1266 احتكر التجار الإيطاليون تجارة القمح الزيخي بعدما ابعدوا التجار اليونان عن سوق الحبوب. بفضل التجار الطليان نشطت تجارة الحبوب في حوض البحر الأسود. في البداية كان تصدير القمح من زيخيا مخصصا فقط إلى جنوة والبندقية, وكان يتم على مستوى حكومي ولم يكن مخصصا لإعادة بيعه في أسواق أخرى. في عام 1268 أثناء المجاعة في إيطاليا كان القمح يأتي حصريا من شيركيسيا.

يقول مارتينو كانالي مؤلف كتاب "أحداث فينيتسيا (البندقية)": "الأغنياء والزعماء الفنينتسيون أرسلوا السفن إلى زيخيا لجلب القمح إلى البندقية".

أصبحت قافا مركزا مؤقتا لتخزين القمح الذي يأتي من الموانئ الزيخية. وتشهد وثائق القانوني الجينوي لامبيرتو دي سامبوشيتو الذي عمل في قافا (1289-1290) على المستوى الكبير الذي وصلت إليه تجارة القمح بين قافا وزيخيا, حيث تقول الوثائق إنه بناء على 16 عقد بيع وقع في خريف 1289 وربيع 1290 تم تصدير من قافا إلى طرابزون 1304 طن من الحبوب الزيخية. في القرنين الرابع عشر والخامس عشر أصبحت شيركيسيا مطعمة للجمهوريات البحرية الإيطالية والمدن البيزنطية. ويعتبر المؤرخون أن تجارة الحبوب بين زيخيا وجنوة في القرنين الرابع عشر والخامس عشر كانت أساس النشاط التجاري للجنويين. إن حجم تجارة الحبوب مع شيركيسيا دفع الأوربيين إلى اعتبار تلك المنطقة الرافد الرئيسي للقمح والغذاء الذي يجب تأمينه لجنود الحملات الصليبية.

في عام 1386 وأثناء محاصرة التتار لقافا, قامت إدارة هذه المدينة التي يتجاوز عدد سكانها سبعين ألف نسمة بطلب القمح من شيركيسيا. هذا القمح ساعد قافا على الصمود في وجه الأوردا الذهبية.

تشير الوثائق التاريخية بشكل مفصل إلى ارتباط المستوطنات والجمهوريات الجينوية بالقمح الشركسي. تقول رسالة قنصل ماساري وقافا لبنك سان جورجيو 6/11/1455: "مدينتنا تعاني من قلة المؤنات وتعيش جوعا حقيقيا, سعر القمح في شيركيسيا الآن يتراوح بين 50 و55 أسبار وسيرتفع سعره قريبا. إن موسم القمح في كامباني (هي مناطق زراعية محيطة بقافا) كان سيئا للغاية وغير كافي لزراعة الموسم القادم, إضافة إلى أننا استهلكناه كله تقريبا. أما الاعتماد على شيركيسيا فغير ممكن بسبب تدهور العلاقات معها".

وضع المؤرخ الإيطالي فينيا مجموعة للوثائق

"Codice Tauro-Ligura"

تضمنت شرحا للمستوطنات الجنوية في زيخيا. تقول الوثائق: "إن أملاك وسلطة المستوطنات الجنوية كانت لاتتعدى حدود المدن التي يعيشون فيها. عند حدود هذه المستوطنات كانت تبدأ مقاطعات وأراضي السكان الأصليين من الزيخ".

إن اعتماد البندقية وجنوة على القمح الشركسي كان السبب الرئيس في بقاء مستوطنات هاتين الجمهوريتين الإيطاليتين لفترة طويلة على سواحل البحر الأسود الشركسية (من القرن 12 حتى أواخر القرن 15). يكتب زيفاكين في هذا الصدد: "مستوطنات الطليان في بدايات استيطانهم المناطق الساحلية لشيركيسيا كانت عبارة عن بعض البيوت والمستودعات. لقد كانوا يشترون القمح من زيخيا واستمروا بذلك حتى انهيار مستوطناتهم. إن انقطاع تصدير القمح الشركسي تسبب في مراحل عديدة بالمجاعة في هذه المستوطنات وفي البندقية وجنوة نفسهما. في المراحل الأخيرة بدأت تظهر مستوطنات إيطالية في شيركيسيا محاطة بحقول القمح ولكنها لم تكن تملك جدوى إقتصادية ولم تغير شيئا من اعتماد الطليان على القمح الزيخي".

إن بقاء المستوطنات الجنوية والفينتسية في شيركيسيا والقرم ما كان ليستمر لولا الدعم السياسي والاقتصادي من قبل السكان المحليين.

بدأ تراجع سوق الحبوب الشركسي وتدهور التجارة في حوض البحر الأسود في فترة نمو نفوذ الدولة العثمانية.

وضع عام 1453 حدا للعلاقات بين القوقاز وحوض البحر الأبيض المتوسط. سيطر العثمانيون في هذا العام على القسطنطينية وقضوا بذلك على الإمبراطورية الرومانية الشرقية (بيزنطة). توسع العثمانيون واحتلوا أراض واسعة في الأناضول والبلقان, ففي الفترة بين 1458-1463 انتقلت الأملاك والأراضي البيزنطية في البلقان والأناضول إلى العثمانيين, في عام 1461 احتل العثمانيون طرابزون, وفي عام 1463 احتلوا البوسنة. قام العثمانيون في عام 1454 بأول حملة عسكرية في القرم وحاصروا قافا, ولكنهم لم يتنكنوا من احتلال المدينة الجنوية وكانت الحملة أشبه بعملية عرض للعضلات قبل الضربة القاضية.

في الفترة مابين العامين 1454 و 1475 لم يقم العثمانيون بحملات واسعة في القرم والقوقاز. هذه الفترة تميزت بالصراعات الداخلية القبلية بين تتار القرم. في هذه الصراعات لعب الجنويون والشراكسة دورا نشطا. ففي عام 1468 لجأ خان القرم نور دوليت إلى زيخيا بعدما أطيح به. طلب نور دوليت دعم الشراكسة ولكنه لم ينجح في إستعادة منصبه. في عام 1471 طلب الخان مساعدة الجينويين لاستعادة سلطته ولكن الجينويين تركوه محاصرا في أحد أبراج قافا.

في عام 1475 لجا الأمير التتاري إمينيك - زعيم قبيلة شيرين القوية – إلى زيخيا. إمينيك لعب دورا مهما في الحياة السياسية في القرم وكان يراسل السلطان محمد الثاني. فعليا قاوم إمينيك رغبات السلطان العثماني في احتلال القرم مما دفع الأخير إلى تجهيز حملة من أسطول كبير يضم 300 سفينة حربية لاحتلال قافا. كان على رأس الأسطول غيديك أحمد باشا. عبر البر توجه نحو القرم جيش عثماني كبير. يوسف خامير في المجلد الثالث من كتابه عن القرم قدر عدد أفراد الجيش العثماني الذين حاصروا قافا ب 40 ألف جندي. في الأول من حزيران 1475 وصل الأسطول العثماني إلى قافا. قام غيديك باشا الذي لم يلق مقاومة بانزال جنوده على البر ومحاصرة المدينة. قصف العثمانيون المدينة بالمدافع على مدى أربعة أيام. في 6 حزيران قررت إدارة قافا الجنوية الاستسلام. عفا غيديك عن قنصل قافا أنتونيوتو غابيلي, بينما أرسل أوبيرتور سكفارشيافيكو إلى القسطنطينية حيث عذب وأعدم. دمر العثمانيون قافا بشكل كامل وسلبوا كل بضائع المدينة التجارية الغنية وسفنها وأملاكها, واجبر العثمانيون كل مواطن من قافا على دفع مبلغ يتراوح بين 15 و 100 أسبار. لقد كان عدد سكان المدينة يقرب من سبعين ألف وهم تجار طليان وروس وارمن ويونان وشراكس ومنغريل. وجود الشركس في قافا ذكرته مصادر تاريخية كثيرة إيطالية وتركية.

سقوط قافا كان يعني نهاية الوجود الجينوي في البحر الأسود. بعد احتلال قافا قام العثمانيون في عام 1475 بمهاجمة شيركيسيا واستطاعوا احتلال مدن تانا, ماتريغي وكوبا. لكن العثمانون لم يتمكنوا من الحفاظ على حصونهم التي احتلوها على شواطئ شيركيسيا بسبب مقاومة الشركسة القوية لهم.

في عام 1479 ذكر ابن كمال كاتب ديوان السلطنة العثمانية أن العثمانيين قاموا بمحاولة جديدة لاستعادة الحصون التي فقدوها في كوبا وأنابا. ولكن هذه المحاولة فشلت أيضا, فلم يتمكن العثمانيون من الدخول في عمق الأراضي الشركسية وكانت حملتهم أشبه بالقرصنة اعتمدت على سلب ونهب القرى الصغيرة غير المحمية وانتهت بانسحابهم من شواطئ شيركيسيا باتجاه القرم.

إن غزو العثمانيين لأراضي شيركيسيا كان جزء من الصراع بين الدولة العثمانية والدولة المملوكية الشركسية في مصر وسوريا. إن الصراع بين الدولتين على السيطرة في مناطق الأناضول أدى إلى مواجهة عسكرية بين العامين 1485-1481. فقد حاول العثمانيون قطع امدادات الحديد إلى مصر المملوكية, وبهدف إضعاف المماليك شن العثمانيون حملة على شيركيسيا دمرت خلالها كل المراكز التي كانت تمد جيش المماليك في مصر بالمقاتلين الشراكسة من شيركيسيا.

بعد سقوط قافا لجأ عدد كبير من الجينويين إلى شيركيسيا حيث شهدت تلك الحقبة تزاوجا بين الطليان والشراكسة. هذا التزاوج أوجد في القرن الخامس عشر ما أصبح يعرف بممثلي الشراكسة الفرانكيين. كان الشراكسة الفرانكيون كاثوليكيين بالديانة, شراكسة باللغة والتقاليد. هذه المجموعة السكانية بقيت موجودة حتى أواسط القرن السابع عشر. وصف إدموند دي أسكولي في عام 1634 هذه المجموعة حيث كتب: "عندما احتل الأتراك قافا الجنوية قبل مائة وثمانين عام نُقل قسم من علية القوم إلى القسطنطينية حيث منحوا بيوتا ومجالا للعمل التجاري. قسم من الجينويين انتقلوا إلى شيركيسيا برفقة زوجاتهم الشركسيات, وهناك من تزوج من شركسيات بعد وصوله إلى شيركيسيا. هؤلاء يسميهم الشراكسة فرانك كارداش وتعني الأخوة الفرانكيون. مثلهم مثل الشراكسة في الحقوق وكانوا يتقيدون بتقاليد الشراكسة ويتكلمون بلغتهم و كانوا يتقنون اللاتينية ولم ينسوها".

آثار الجينويين بقيت في شيركيسيا حتى القرن التاسع عشر. وقد لفت انتباه الرحالة الإيطالي تيبو دي ماريني الذي زار سواحل شيركيسيا في أعوام 1818 و 1823 و 1924 الأثر الجينوي في شيركيسيا. فقد لاحظ وجود كلمات جينوية كثيرة في لغة الناتخواي, إضافة إلى عادة الناتخواي رفع القبعة أثناء التحية مصدرها جينوي بسبب أن الشراكسة لايرفعون قبعاتهم من على رؤسهم أمام الناس.

كان الرد من قبل الشراكسة على تساؤلات جورج لونغفورت مراسل التايمز اللندنية عن مصدر الأبنية الصخرية في شيركيسيا: "إنها من صنع الجينويين". فالجينويون بنوا الأبراج الدفاعية الحجرية في شيركيسيا. عند نهر شيبج في منطقة تحماخ في الشابسوغ يوجد كورغان يسميه الشابسوغ "الجنوي". حسب القصة الشركسية في هذا الكورغان دفن شخص برفقة ثروته ويدعى غينو. بين عامي 1830-1840 على هذا الكورغان كانت تعقد المجالس الشعبية (الخاسه). لغاية ستينات القرن التاسع عشر على مسافة 15 كلم من مدينة نوفوروسيسيك الحالية كانت توجد بقايا مستوطنة تسيتاديلي. كان الناتخواي يسمونها جينوة قاله.

في النهاية لابد من التأكيد على أن العلاقة بين الشركس والجينويين ماتزال بعيدة عن الإضاءة الكاملة وتحتاج إلى دراسة وبحث أكبر, وهذه الدراسة ماهي إلا بداية متواضعة لبحث شامل للأثر الجينوي في القوقاز والعلاقات الشركسية الجنوية.