الفترة من بداية الالفية الأولى قبل الميلاد حتى القرن الثالث الميلادي
الميوت :
في الألفية الاولى قبل الميلاد, كانت كل الشعوب التي تسكن شواطئ الميوتيد ( بحر آزوف ) والقفقاس الشمالي والسهول الشمالية المتاخمة لها متقاربة.
هذه الشعوب هي: (سيند – زيخ – بسيس – داندار – دوسخ – توريات – ابيدياكين – ارياخ – آخي – موسخ – سيتاكين – تاربيت –فاتيه), وكانت حسب المدونات التاريخية الإغريقية و مدونات روما القديمة تجمع تحت اسم الميوت.
كان الميوت صناع مهرة, بينهم الحدادين والحجارين والخزفيين والحذائين وعمال ميناء وصائغين. وكان ممثلو كل حرفة يشكلون طبقة عشائرية, ولم يكن مسموحا لأي شخص أن يتعدى على مهنة أخرى.
كان للميوت نظام العبادة والايمان الخاص بهم, كانوا يألهون قوى الطبيعة والظواهر الطبيعية كإله نور الشمس والنار وإله المطر والعواصف الرعدية وإله الغابة وإله البحر وغيرها من الآلهة. وكانوا يقدمون القرابين لها مترافقة بطقوس صعبة. فقد انتشرت عندهم طقوس سحرية مختلفة مارسها زعماء القبائل. تمثلت طقوسهم باستخدام ألفاظ وتعويذات خاصة وتحضير العقاقير السحرية.
رئيس القبيلة كان الأكثر حنكة في أمور ومدارك السحر, ينغمس فيها لدرجة أنه يرى أحداث الماضي والحاضر والمستقبل, ويخاطب أرواح المتوفين من أقاربه, ويخاطب كذلك الآلهة ويسألهم المعونة والنصح في بعض الأمور حسب معتقدات الميوت. كل ذلك يترافق بصيام واعتزال أو بالعكس يترافق مع تناول الكثير من الطعام والمشروبات المسكرة.
أما مدافن عظماء الميوت فتتميز بتعقيدات كبيرة وتخضع لتصنيف حجمي.
تتجسد آلهة الميوت بالظواهر الطبيعية والعفوية: آلهة السماء, الأرض, الشمس, النار, الهواء, وبالمفاهيم المجردة: حسن الضيافة, الشرف, الاخلاص لعادات الأسلاف, الاخلاص للقسم وهكذا.... كما كانت هناك آلهة نصيرة لكل حرفة.
إن تقديس واحترام الأقارب المتوفين والطقوس الجنائزية أمور هامة جدا بالنسبة للميوت. كانوا يضعون جسد المتوفي بشكل ملتوي في حفرة ويضعون معه الأدوات التي قد يحتاجها في العالم الآخر بالاضافة الى الهدايا الجنائزية المقدمة من أقارب المتوفي وأهالي قريته كالأوعية والأسلحة واللباس وأدوات الزينة. فوق القبر يضعون تلة من الرمل (كورغان).
وتقام حول القبر الطقوس الجنائزية وتمتد من عدة أسابيع حتى عدة أشهر حسب أهمية الشخص المتوفي. حيث كان يشكل الميوت حلقات دائرية حول القبر وينشدون الأغاني الجنائزية المترافقة مع بكاء وضجة كبرى لطرد الأرواح الشريرة, ولهذه الغاية كانوا يقلدون كل الحيوانات المفترسة حول القبر.
الآلهة الرئيسي لدى الميوت كانت آلهة الشمس, النار, الضوء, الدفء. كانوا يعتبرون هذه الأمور الأربعة متساوية بأهميتها وأانها مصدر الحياة على الأرض و يعبدونها.
وكانوا كشعوب حضارة شمال القفقاس يدهنون جسد المتوفي بدهان أحمر (قهرة) الذي يرمز الى النار .
عاش الميوت في الجبال على تخوم القفقاس أسسوا حياة حضارية اشتغلوا بشكل خاص بتربية الماشية وصيد الأسماك الذي استخدموا فيه شبكات الصيد الكبيرة والخطافات.
السارامات :
في الألف الأول قبل الميلاد تسلل اتحاد قبائل رحل يتكلمون اللغة الايرانية من الشواطئ الشمالية لبحر قزوين الى سهول الكوبان, هذه القبائل كانت تدعى السارامات. وكانت الصدامات الداخلية فيما بينها مستمرة من أجل السلطة على هذا الاتحاد, مما أدى الى تقسيم السارامات الى مجموعات متخاصمة متعادية. من أشهر هذه المجموعات: آورس – سيراك – ألان – راكسولان – يازيغ. حدث الاستيطان الأكبر للسارامات في هذه المنطقة في القرن الرابع الميلادي, و حسب شهادة المؤرخ (سترابون ): ان الآوروس يقطنون على طول مجرى نهر تانايس, و السيراك على مجرى نهر أخارديا (الكوبان) الذي ينبع من جبال القوقاز ويصب في بحر الميوتيد (آزوف). ويؤكد سترابون أن الآوروس كانوا يمتلكون مساحات شاسعة ويسيطرون على القسم الأكبر من بحر قزوين.
تفوق السارامات على الشعوب الكثيرة التي كانت تحت سيطرتهم عدة وعتادا بأسلحتهم وبتفوقهم بالقتال. كانوا فرسانا مهرة واضافة الى الأسلحة التقليدية كالقوس والنشاب كانوا يمتلكون الحراب و السيوف الطويلة والدروع الثقيلة.
ان وجود جيران محاربين خطرين كالسارامات أدى الى تكاتف الميوت, والى ظهور مجموعة قوانين وعادات تشمل كافة الأمور الحياتية والمعيشية, كما ظهرت طبقة المحاربين وقاداتهم. ان السيوف والتروس والرماح التي كان يصنعها حرفيو الميوت كانت أكثر صلابة من تلك التي يصنعها السارامات, ومدى نبالهم أكثر بعدة مرات من مدى نبال السارامات الرحل. كانوا يمتلكون كذلك الدبلوماسية, فكل قادم اليهم بقصد السلم كان يقابل بالطعام والهدايا السخية وكامل التشريفات الممكنة, وأي زائر كان يعادل وحتى يضاهي مواطنيهم ويؤمن له المأوى المناسب.
أما من كان يقصدهم عدوا, فكان يلقى مقاومة شرسة حتى لو كان هذا العدو يفوقهم عددا وعتادا ولم يستطع الميوت مقاومته مباشرة, كانوا يقومون بذلك لاحقا.
الثأر عندهم ينطلق من مبدأ الدم بالدم, الموت يقابله الموت, والعاهة باحداث عاهة في العدو, وكذلك الأسر بالأسر.
كان الثأر الأشد ضراوة يتمثل بالثأر ممن يتجرأ على تدنيس النصب المقدسة للأجداد وقبورهم وكل ما يتعلق بهم. عقاب ذلك هو الموت ثم يقطع رأس الجثة و تُحرق. وفي حال وفاة الميوت قبل أن ينتقم, فعلى أقاربه القيام بذلك, اعتقادا منهم أن الميوت لايمكنه الدخول الى مملكة الأموات طالما أن عدوه حي يرزق, وكان هذا واجبا على كل أقاربه دون استثناء, حيث أن دخول المتوفي إلى عالم الأموات كان الشرط الأساسي ضمن طقوس الدفن.
العلاقات المتبادلة بين الميوت و السارامات:
كان للدبلوماسية الحربية الميوتية نتائج محددة, في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد حُجزَ الميوت من قبل السارامات الرُحل, و نسبيا كانت هناك علاقات ودية بين الآريال والسيراك. وعلى مدى ثلاثة قرون حصل تبادل ثقافي بين الميوت والسارامات, اضافة الى الزيجات المتبادلة التي يفسرها التعايش السلمي بين هذه القبائل لفترة طويلة, كذلك عدم التوافق المستمر بين السارامات الرحل أنفسهم هو الذي أفاد الميوت جدا.
في الأعوام التالية تأثر الميوت كثيرا بالسارامات, وفي النصف الثاني من القرن الثاني قبل الميلاد كانت المعدات والأسلحة وادوات الزينة الساراماتية تستخدم بشكل واضح من قبل الميوت, كما تغيرت طقوسهم الجنائزية, ولكن عقيدة الميوت ظلت كما كانت رغم أنها أخذت الكثير من العبادة الساراماتية دون ان تحل محلها او تعارضها, حيث كان الميوت يطبقونها كمعلومات اضافية جاءتهم من أناس قدموا من البعيد. وتدريجيا اندمج الكثير من السيراك مع الميوت منتقلين الى حضارتهم ومتعايشين معهم.
وادى تعايش أعداد كثيرة من السيراك مع الميوت الى تغير طباع الميوت وتفكك علاقاتهم القبلية وتعمقت التمايزات الحياتية.
ومع ازدياد خطر تدخل الآلانيين أخذ الميوت مع السارامات المندمجين معهم بالانتقال من القرى الى المدن المحصنة وذلك في المنطقة الواقعة على الضفاف اليسرى لنهر الكوبان.
السيند :
يشكل السيند احدى أكبر قبائل الميوت الذين قطنوا شبه جزيرة تومانسك وشواطئ البحر الأسود الشمالية الشرقية منذ بداية الألفية الأولى قبل الميلاد. ومع بداية القرن الخامس قبل الميلاد أنشأ السيند دولتهم (سينديك) التي حكمتها سلالة ملكية سيندية, وكانت عاصمتها مدينة سينديك (مدينة أنابا الحالية), وقد سماها اليونانيون القدماء بميناء سينديك. وكأغلب الميوت مارس السيند الفلاحة وتربية المواشي وصيد الأسماك, وكان نظام الرق هو السائد فيها.
وفي العام 480 قبل الميلاد توحدت المستعمرات اليونانية المتوضعة على شواطئ مضيق كيرجينسك تحت لواء دولة واحدة, سُميت بمملكة البوسبور وأصبحت عاصمتها بانيتكاب. نشطت التجارة بين السيند ومدن البوسبور وانتشر الباعة اليونانيون في أسواق وشوارع السيند وكانوا يتاجرون بالخبز والحبوب والخضر والحليب ويشترون العبيد بالمقابل. وكما في المدن اليونانية, فقد انتشرت المدرجات أعلى بيوت السيند وكانت تقام فيها العروض المسرحية والمصارعات الرومانية القديمة.
قام اليونانيون بتصدير الملح والخمر والأقمشة الى سينديكا, واقبس السيند الكثير من عادات اليونانيين ونمط لياسهم وأسلحتهم وطرق البناء لديهم وتعلموا منهم فن التصوير والنحت. بنفس الوقت تولدت لدى حكام البوسبور فكرة احتلال السينديك وتحويلها الى مستعمرة يونانية, لكن كل المكائدو محاولات الرشوة لم توصلهم للنتيجة المطلوبة . وفي عام 479 قبل الميلاد لجأ البوسبور الى الاعتداء المباشر على سينديك, وحسب شهادة المعاصرين وصل الى مرفأ السيند اسطول حربي جبار في فجر أحد الأيام, وتأهب سكان السيند استعدادا للمعركة على مشارف المدينة, وأسرع سكان القرى المحيطة باللجوء الى المدينة مغلقين بواباتها ورائهم باحكام. لعب الجواسيس اليونانيين المتخفين في المدينة بالزي السيندي دورهم المتفق عليه مسبقا مع جنود الفرقة الخاصة اليونانية, وتحركوا نحو البوابات الشرقية, انقضوا على حراسها وقتلوهم, وتوغل اليونانيون داخل المدينة المدينة منتصف النهار واحتلوها بشكل كامل بعد تكبدهم خسائر فادحة. حاولت لاحقا الفصائل السيندية الضخمة المعززة بغيرها من الميوت تحرير مدينة سينديكا من اليونايين وجرت معارك كثيرة أدت الى تدمير المدينة, وشيد اليونانيون مستعمرتهم مكانها وسموها غورغيبا.
مع سقوط سينديكا أخذ الميوت بالتراص مع قبائل الزيخ الميوتية القاطنة على ضفاف البحر الأسود شرق السينديين. كان الزيخ ينادونهم باليونانيين, ولكن في المؤلفات البوسبورية كانت ترد كلمة (أدزاها), وأغلب الظن أنها تطابق الكلمة الأديغية (أدزاخ) أي الجيش أو القوات المسلحة, ومن الممكن أن تكون هي الكلمة التي تحولت مع الزمن الى (أديغة).
في رواية اخرى, تسمية أديغة مرتبطة بانتشار عبادة الشمس, حيث ان لها لفظا مشابها جدا الى الكلمة الأديغية القديمة (أ – ديغة) – شعب الشمس.
في المصادر الايطالية واليونانية تسمية الزيخ كانت تطلق على الأديغة حتى القرن الخامس عشر. يقول المؤلف الايطالي انتريانو الذي كتب عن الأديغة مقالات كثيرة: (بالايطالية واليونانية واللاتينية يسمونهم زيخ, أما الأتراك والتتار فيطلقون عليهم شراكسة, وهم يسمون أنفسهم أديغة).
استمرت الحروب الدامية بين الميوت و اليونانيين لعدة سنوات حتى عام 438 قبل الميلاد, وكان الميوت يهجمون باستمرار على مدن البوسبور بدعم من الزيخ. .في عام 438 قبل الميلاد تولى سبارتوكوس ذو الأصول الميوتية ومؤسس سلالة سبارتاكيد الملكية حكم البوسبور, ومع وصوله للسلطة تتوقف الحروب بين الزيخ و اليونانيين, ولكن تكتل الميوت مع الزيخ سيستمر لسنوات لاحقة.
توطدت العلاقات التجارية بين البوسبور والميوت, حيث كان الميوت المورد الأساسي للخبز لمدن مملكة البوسبور ومدن يونانية أخرى بما فيها اثينا.حصل الميوت على جملة من المكاسب المادية والروحية من الثقافة اليونانية القديمة, وتحت تأثير اليونانيين انتشرت بين الميوت مهنة الخزف وصناعة المجوهرات والدروع الحربية, وبنفس الوقت اقتبس البوسبوريون من الميوت أنواع كثيرة من الأسلحة وتكتيك المعارك وتفصيل الملابس الملائمة للظروف المحلية.
الزيخ :
في القرن الثاني رغب ملك الزيخ ستاخيمفاك أن يرسخ مواقف الزيخ من القبائل المحيطة مدعيا نفسه تابعا للامبراطورية الرومانية. وكغيرهم من حكام دول أخرى أخذ ملوك الزيخ باقتناء الحريم, حيث كان يصل عددهم للمئات ويتم جلبهن من بلدان مختلفة.
مع مرور الوقت أخذ الزيخ يضمون تحت لوائهم أعدادا كبيرة من قبائل الميوت, مشكلين اتحادا حربيا كان العمود الفقري ضد الغزاة.وكما باقي الميوت عمل الزيخ بتربية المواشي والفلاحة وصيد الأسماك, كما انتشرت لديهم زراعة الكروم.
تمركز القسم الأكبر من السكان في المدن الكبرى المسوّرة بمتاريس من كافة جوانبها, كما استمر بناء بيوت جديدة خارج الأسوار وتحاط بعد ذلك بأسوار دفاعية. أما في القرى الصغيرة فقد كانت المنازل تتوضع بشكل دائري ويبنى حولها حائطا دفاعيا. تطورت الملاحة البحرية عند الزيخ, في البداية كانت تصنع المراكب البدائية – كالزوارق الصغيرة ثم استفادوا من الخبرات الكبيرة لدى البوسبوريين في مجال الملاحة البحرية. كان الزيخ يزينون محاكمهم بتجسيدات لآلهة البحر خاتخا, الذي يحمل بيده صولجان ثلاثي الرأس وله ذنب سمكة بدلا من الأرجل.
كانت مراكب الزيح تتحرك على شكل مجموعات مؤلفة من عدة مراكب على طول الشواطئ الشمالية الغربية للبحر الأسود, مستخدمين استراتيجيات حربية متنوعة تمكنهم من الايقاع بأية سفينة غريبة, حيث كانت تحيط بها عدة سفن بشكل مفاجئ وتقترب منها من جميع الجهات. لم ينحصر تأثير اليونان القديمة بزراعة الكروم والملاحة البحرية والخزف فقط, فقد انتشر نظام الرق في مناطق الزيخ, الذين كانوا يحصلون عليهم عن طريق القرصنة ويبيعونهم في أسواق مدن البوسبور.
في القرن الأول قبل الميلاد كان الزيخ يعتمدون على مساندة مملكة البونتسيك, وكثرة الغزوات على الجيران أدت الى كثرة الذهب والمجوهرات الثمينة لدى الزيخ, كان الذهب وفيرا لدرجة أنه كان أرخص من البرونز والفولاذ وغيرها من المعادن الصلبة التي كانت تستخدم لصناعة الأدوات الحربية والعمل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق