11‏/05‏/2009

الإغريق و الشراكسة وجهة نظر تاريخية


في ضوء الحديث عن الوجود الشركسي القديم في المناطق الواقعة خارج حدود القوقاز, و الذي أصبح في الآونة الأخيرة موضوع الكثير من البحوث التاريخية, أود التوقف عند الوجود و الأثر الشركسي في منطقة البلقان, حيث توجد دلائل على استيطان الشركس من قبيلة الناتخواي تك المنطقة في الفترة مابين القرنين 31 – 6 ق. م.
هؤلاء الشراكسة كانوا معروفين آنذاك باسم " الآخيين ". و لكن الآخيين المذكورين في البحوث التاريخية يصفهم المؤرخون بأنهم جزء من اليونان القديمة و إحدى قبائلها , و أحيانا يحددون مكان استيطانهم بالقرب من سواحل البحر الأسود القوقازية.
في العمل الكلاسيكي التاريخي الخاص بتاريخ اليونان القديمة مذكور أن الآخيين هم قبائل قدمت من مناطق أخرى و استوطنت شبه جزيرة البلقان. ويذكر العديد من مؤلفي البحوث و الدراسات التاريخية على أنه في فترة من الزمان كانت في اليونان معروفة باسم " آخيا ", حتى أنهم يسمون أول الشعوب القديمة التي استوطنت بلاد الإغريق القديمة باسم الآخيين.
كتب المؤرخ كافاليوف: " كانت لدى الإغريق أنفسهم قناعة بفكرة أنهم ليسوا السكان الأوائل لشبه جزيرة البلقان, و أن هذه المنطقة كانت مأهولة بقبائل أخرى سبقتهم و التي كانت تتمتع بحضارة و ثقافة عظيمتين. و على هذه النظرية توجد شواهد عديدة في الملاحم اليونانية, الأعمال التاريخية, الأساطير و الديانات ".
عن هذه الحضارة القديمة تحدثت الأعمال الإبداعية لفوكيديد و كذلك الأساطير اليونانية و أشعار غومير " الإلياذة " و "أوديسيا".
كان مؤسسي هذه الحضارة يملكون علاقات حميمة مع الحاثيين ( ذوي الأصول الشركسية ) و الذين كانوا يعيشون آنذاك في آسيا الصغرى, و هذه الحقيقة تؤكدها وثائق القياصرة الحاثيين.
يقول سترابون في أحد أعماله: " حول بحيرة ميوتيد ( بحر أزوف ) يعيش الميوت. عند البحر يقع القسم الآسيوي من البوسفور و مقاطعة السند ووراءهم يقطن الآخيون, الزيخيون, الجينوخيون و الكيركيت ".
إذا كان الآخيين يعتبرون كمهاجرين إلى البلقان فهذا يعني على حد تعبير سترابون أنهم قدموا من المناطق الواقعة بين البحر الإغريقي و البانت, أي من المناطق الواقعة بين بحر الأسود و بحر الخزر ( قزوين ).
بعد القضاء على حضارة الآخيين من قبل شعوب أخرى, أو ربما تكون كارثة طبيعية قد تسببت في دمار هذه الحضارة, عاد قسم من الآخيين إلى وطنه الأم – القوقاز, و تحديدا إلى المناطق الواقعة بين نهر الدون و البحر الأسود. و إلا كيف يمكن تفسير حصول الآخيين على أراض ميوتية بدون حرب مع السكان المحليين لو لم تكن بينهم صلة قربى؟ 
كان الآخيين الذين تحدث عنهم سترابون يعيشون في أيامه في ميوتيدا و يمكن النظر إليهم كسكان أصليين لتلك المناطق و ليس كمستعمرين لها. فالدلائل كثيرة على المنشأ القوقازي ( أو الأصح – الشركسي ) للقبائل الآخية التي كانت تقطن الجزر اليونانية و حوض بحر الميوت. و يدعم هذه النظرية ما يلي:
1-كان الإغريق يعتقدون أنهم ليسوا أول من قطن الجزر اليونانية.
2-في القديم كانت تقطن سواحل البحر المتوسط قبائل البلاسغ, الاتروسك و الباسك ذات المنشأ القوقازي.
3-كان اتحاد القبائل الكمنيسية ( و ضمنها الأخيون ) يملك علاقات دبلوماسية و عسكرية مع الدولة الحاثية ( كشف رموز ألواح الوثائق الحاثية باللغة الحاثية للعالمين الألمانيين فيدينر و فورير ).
4-الخلافات الانتروبوليجية بين الإغريق و الآخيين.
5-التشابه بين الكتابة الآخية و الحاثية القديمة, و اختلافها مع الكتابة الإغريقية القديمة ( كشف رموز الأبجدية الحاثية للعالم التشيكي غروزني ).
6-تشابه طرق التربية عند السبارتاكيين و الشراكسة, فالكثير من السبارتاكيين اعترفوا بمنشأهم الآخي. فعلى سبيل المثال القيصر السبارتاكي كليومين الأول كان يعتبر نفسه آخيا.
7-تشابه قواعد الضيافة و العلاقات الاجتماعية. كتب أوشيروف يقول: " هناك يتقيدون بقانون الضيافة المقدس و المحمي من الإله ريفس, حيث لا أحد يكنه أن يترك شيخا بدون أن يضيفه و يقدم له هدية ". كذلك نظام الحكم الشبه ديمقراطي, حيث كان هناك مجلسا للشعب يستطيع كل إنسان من خلاله أن يعبر عن رأيه و كذلك كان الوضع عليه في المجتمع الشركسي, حيث كان ساريا نمط إدارة شبه ديمقراطي للمجتمع مشابه لنظام الإدارة عند الإغريق القدماء.
8-تشابه الكثير من الأساطير التي تدور حول السي كلوبي ( العمالقة ) في الميثالوجية الإغريقية, و ينجخر (بيûوُْ‎ً ) أو (ح‎çàêْî ) ( العملاق ذو العين الواحدة ) عند الشراكسة. مثال آخر الأسطورة اليونانية عن بروميتيه الذي قيد بالسلاسل على إحدى قمم القوقاز لها شبيهتها في أساطير نارت الشركسية (نسرن جاجه) و الذي قيد بدوره على إحدى قمم القوقاز.
9-تعددية الآلهة عند الإغريق و الشراكسة القدماء, و كذلك خصوصية اتمنولوجية تقارب أسماء الآلهة ( زيفس, بوسيدون, جرميس, تيوخا و ألخ).

وذكر سترابون أن الآخيين كانوا يشكلون مجموعة سكانية كبيرة استوطنت 12مقاطعة من بلاد الإغريق. وكل مقاطعة كانت مكونة من 7 – 8 جماعات. فيما بعد و لسبب مجهول غادر القسم الأكبر منهم بلاد اليونان. أما المكان الذي هاجروا إليه قادمين من البلقان فكان السواحل الغربية من آسيا الصغرى, حيث حفظت العديد من القصص التي تتحدث عن حياة القياصرة الآخيين, عن رحلاتهم البحرية البعيدة, و أخيرا عن انقضاضهم على تريو و كذلك جزيرة قبرص و العديد من الجزر الأخرى القريبة من خليج كرينوف.
في نفس الوقت يتحدث كل من سترابون و بيك عن مكان محدد عاش فيه الآخييون في تلك الفترة في القفقاس الشمالي عند منطقة غوريبي ( مدينة أنابا الحالية الواقعة على سواحل البحر الأسود القفقاسية ). كتب سترابون يقول: " مقاطعة السند ( قبيلة شركسية قديمة ) و غوريبي, واقعتان على البحر, ثم تأتي سواحل الآخيين, الزيخ, ثم العينيوخ ( أيضا قبائل شركسية قديمة ) محرومة بدورها من أقسام كبيرة من المرافئ كونها تشكل جزءا من القفقاس ".
هنا سترابون يؤكد على ملاحظة مفادها: " أن هذه الأيام قدم و استوطن آخيا الآخييون الغتيوتيون من قوات اياسون, أما اللاكورنيون فاستقروا في جينيوخيا. قائدا القسم الآخر كانا كركاس و أمثيسراط – و على الأغلب فان الجينيوخيين حصلوا على اسمهم تحديدا من هذه القبيلة ". 
لكي لا نعود إلى هذه النقطة, يمكننا القول أن سترابون كان محقا على ما يبدو: الشعوب الأخرى كانت تسمي الأديغه بالشراكسة, و تفسير هذه الكلمة لم يحدد بشكل واضح حتى أيامنا هذه. كما هو معروف في اللغة الشركسية لا توجد كلمات مغلقة مثل تذ و لا يوجد حرف ( ك ) انفجاري. من هنا يمكننا الافتراض بأن اسم أحد قادة الجينيويين ( كريكاس ), على الأغلب كانت تلفظه القبائل الشركسية ومنها الجينيوخيين (جاله جاس) أو ( دجره قس) و الشعوب الأخرى لفظته على شكل كيركاس, كيركيت, شيركس. و هنا يمكننا الافتراض أن شعب بأكمله سمي باسم زعيم إحدى القبائل الصغيرة التي تنتمي إليه.
في حديثنا أعرنا الاهتمام لقول سبنسر بأن الناتخواي احتفظوا بقصص كيف قدم أجدادهم من وراء البحر. من هنا يمكننا القول بأن الناتخواي كانوا يذكرون نهر آخي في منطقة سواحل البحر السود الشركسية حيث هاجروا إلى بلاد الإغريق و عاشوا هناك فترة من الزمان ومن ثم عادوا إلى مناطقهم التاريخية في القوقاز.
في الأعلى ذكرنا اعتمادا على قول سترابون فان الآخيين بعد تقسيم بلاد الإغريق إلى 20 منطقة ( مقاطعة ), أصبحوا يشكلون مجموعات سكانية متعددة. تقريبا بهذا الشكل بدأ انهيار دولة الميوت في القوقاز.
يقول سترابون: " انقسم الميوت إلى عدة قبائل, هذه القبائل كانت تخضع لسلطة السكيبتوخيين و الذين بدورهم كانوا يخضعون لسلطة القياصرة ". بروك هاوز و يفرون كتبا في موسوعتهما: " الآخيين لم يكونوا تحت سيطرة القياصرة في مدنهم ال 12". انقسام الآخيين – الميوت إلى 12 قسم – مدينة – قبيلة تحت سلطة الملوك, بقي على ما يبدو في ذاكرة الشعب الشركسي حتى فترة قريبة من الزمان. يؤيد هذه الفكرة أنه على العلم الشركسي مرسوم 12 نجمة و التي تمثل القبائل الشركسية الأساسية. هذا العلم تم اتخاذه راية لكل الشراكسة في القرن التاسع عشر. أم الأسهم الثلاثة تحت النجوم فهي تدل على الإدارة الديمقراطية النسبية, السلمية للشعب.
عند الشراكسة كان هناك ثلاثة أمراء رئيسيين و هم:
بششخوه ينال ( فيما بعد أتاجوقوه) عند قبيلة القبردي, بولوتوقوة – عند الجامكوي و حادجيمقوة عند البجدوغ. إدارة البلاد كانت محدودة ضمن مناطقهم من خلال السكيبتوخ أو الأمراء الأقل درجة, ولكن الأمير بشيشخوه كان يملك منصبا رمزيا نسبيا و مقاما له وزنه و تأثيره على القبائل الشركسية الأخرى.
عندما اضطر الآخييون إلى ترك المناطق التي استوطنوها في شبه جزيرة البلقان أصبحوا يعرفون آنذاك باسم إلينا أي يونان, ثم عادوا إلى وطنهم التاريخي و تحديدا سواحل البحر الأسود الشمالية ليستقروا بجانب أخوتهم بالدم الكيميرين ( الجمكوي) و الذين كانوا يعيشون في تلك المناطق.
يقول سترابون: " كان الكيميريون يسيطرون على مساحات واسعة من البوسفور, و لهذا فان مناطق كبيرة وصلت حدودها إلى الميوت و كانت تعرف باسم " البوسفور الكيميري ". توسع الإمبراطورية الكيميرية كان على أيدي السبارتاكيين. يقول سيرغييف: " زعيم القبيلة الجديدة سبارتاك ( يبدو أنه شبه تنقوه في الأساطير الشركسية) لم يكن إغريقي الأصل و إنما أصوله مرتبطة بالغاركي ( وهو أحد فروع الآخيين)". و يضيف سيرغييف: " أصبح البوسفور دولة ليست إغريقية و إنما خليط من الأجناس و الشعوب و التي تركت بدورها أثرها على الحياة الثقافية و الاجتماعية".
في النهاية أريد التأكيد على أن الآخيين اليونان هم أنفسهم الآخيين الشراكسة و الذين عاشوا على سواحل البحر الأسود الشركسية تحت اسم أديغه. هؤلاء الآخييون القدماء انتقلوا في القديم ليستوطنوا البلقان و يؤسسوا هناك حضارة غنية و يقيموا علاقات وطيدة مع شعوب البلقان الأخرى, مناطق بحر ايجه, أسيا الصغرى, سوريا, مصر و غيرها. وكذلك مع أسلافهم من الحاثيين. ولسبب غير معروف استطاع قسم منهم من العودة إلى وطنه التاريخي – القوقاز ليؤسس جماعات سكانية عرفت باليونانية بجوار أبناء جلدتهم من الكيميريين الأديغه.

نوح غش – دكتور في العلوم اللغوية, عضو أكاديمية العلوم الشركسية العالمية, رئيس قسم المشاكل لتاريخية في معهد العلوم الإنسانية بجمهورية الأديغي
   

ليست هناك تعليقات: