11‏/05‏/2009

الأزمة القومية الشركسية أسبابها – أبعادها – نتائجها


بقلم : زاور شوج 

الأزمة القومية:

هي حالة الوعي الاجتماعي الذي يتغير بشكل جذري مارا في مرحلة هبوط أو انهيار مفاجأة في القوة الفعالة التي تحرك منظومة حياة الأمة: اللغة, الثقافة, الحالة السيكولوجية, الهيكل القومي (الدولة القومية), الأرض و الخصائص القومية الأخرى. هذه الأزمة تحدها مرحلة خاصة و حد معين من جملة عملية التطور التاريخي للأمة, عندما تتوقف الأمة أمام خيار مصيري بين الوجود و عدم الوجود, بين حياة هذه الأمة و فنائها.

الأزمة القومية لا تنشأ و تتطور في لحظة أو يوم أو سنة, و إنما هي حالة تطورية على فترات طويلة تمتد على مدى عدة قرون من الزمان. الأزمة القومية مثلها مثل أية ظاهرة أخرى, لها أسباب نشوء و تطور, مراحل نمو سريعة و مراحل جمود, مشكلة بذلك عصر معين من حياة الشعب أو الأمة. للأسف الشديد فان الشعب الشركسي و على مدى قرنين و نيف يمر في مرحلة مأساوية, عاصفة متوترة و مصيرية في حياته. مسألة بقاء, عصر الأزمة القومية الشركسية. 

إن الحرب الروسية-القفقاسية خلفت آثارا سلبية جدا ووضعت الشعب الشركسي و حضارته على شفة حفرة من الفناء التام. و لعلها تعتبر السبب الرئيس في نشوء الأزمة القومية التي تظهر في عدة محاور أساسية أهمها:

الأزمة الجغرافية – السكانية:

لقد فقد الشعب الشركسي في الحرب الروسية القفقاسية أكثر من مليون إنسان على مدى 100 عام, كما طرد 94 % ممن سلم إلى الإمبراطورية العثمانية, و بقي من أراضي شيركيسيا الكبرى أقل من 10 % من الأراضي التي تعتبر الأرض التاريخية منذ صدر التاريخ للشعب الشركسي. لقد انقرضت قبائل شركسية كثيرة من على بكرة أبيها مثل قبائل الماخوش, الناتخواي, الجانه و الأوبخ. وذكلك قبائل كبيرة مثل الأبزاخ الذين كان يزيد عددهم عن 400 ألف نسمة أصبحوا اليوم يعيشون في قرية صغيرة في جمهورية أديغيا لا يزيد عدد سكانها عن 3000 نسمة. و كذلك قبيلة الشابسوغ التي كانت أكبر القبائل الشركسية بعد القبردي, و تستوطن سواحل البحر الأسود القفقاسية من تامان حتى سوتشي, أصبح بناء هذه القبيلة التي كان عدد أفرادها يفوق 700 ألف نسمة يعيشون في عد قرى صغيرة مجموع سكانها لا يتجاوز 10 آلاف نسمة. 

البقية القليلة من الشعب الشركسي التي لم تتعرض للهجير القسري تم توطينها على شكل مجموعات بشرية صغيرة العدد في قرى بعيدة الواحدة عن الأخرى و محاطة بعشرات القرى القزقية التي بنيت على أنقاض القرى الشركسية المحروقة و ذلك لسهولة السيطرة عليهم. 

بعد الثورة الشيوعية في روسيا عام 1917 تم انشاء هياكل إدارية, اليوم تبدو كجمهوريات ذات حكم ذاتي ضمن الاتحاد الروسي و هي جمهوريات أديغيا, قبردينا – بلقاريا, و قرشاي – تشيركيسيا. و حسب الاحصاءات التي أجريت في روسيا أواخر العام الماضي, في أديغيا يعيش 118 ألف شركسي, قبردينا – بلقاريا 520 ألف و في قرشاي – تشيركيسيا 80 ألف منهم 30 ألف من الأبازيين.

بالإضافة لهذه الجمهوريات يعيش الشركس في وطنهم الأم في مناطق أخرى كتجمعات ليست بالكبيرة و هي: على الضفاف الشرقية للبحر الأسود ( من قبيلة الشابسوغ و عددهم 8 آلاف نسمة), في إقليم ستا فروبل, منطقة مزدوك في جمهورية أوسيتيا الشمالية ( و عددهم 1000 نسمة), في إقليم كرسنودار بالقرب من مدينة أرمفير توجد ثلاثة قرى شركسية عدد سكانها لا يتجاوز 1500 نسمة من قبيلة البسلني. 

إن عملية توزيع من تبقى من الشراكسة في مناطق غير متصلة دمرت شعور الوحدة الثقافية و القومية بين أفراد الشعب, كذلك شعور الأمان و الحمية. واستمرت السياسة الروسية و من ثم السوفيتية في عملية الابادة بحق الشعب الشركسي مستخدمة أساليب مختلفة. فمثلا في منطقة القبردي تم اقتطاع حوالي 70 % من الأراضي, و كذلك في منطقة الشابسوغ حيث تم إلغاء الهيكل الإداري لشابسوغ البحر الأسود و تحويله إلى منطقة لازيروفسكايا في عام 1956 ( لازوروف اسم الجنرال الروسي الذي سميت باسمه المنطقة, هو الذي قاد حملة الابادة بحق قبيلة الشابسوغ الشركسية إبان الحرب الروسية – القفقاسية). كما تم غمر 13 قرية شركسية في منطقة البجدوغ في جمهورية أديغيا لتصبح هذه القرى قاعا لبحيرة كرسنودار المشئومة.

أزمة الدولة القومية: 

في فترة ما قبل الحرب الروسية – القفقاسية كانت شيركيسيا عبارة عن تحالف عفوي للأراضي و الإمارات و القبائل الشركسية. بعض هذه القبائل كان يتمتع بنظام حكم ديمقراطي ( الأبزاخ, الشابسوغ ), قسم الآخر من القبائل الشركسية كان يملك نظام حكم أرستقراطي ملكي ( القبردي, الحتقواي, البسلني و البجدوغ), بالإضافة إلى أنه كانت هناك ظاهرة حكم أرستقراطي ديمقراطي مشترك عند قبيلة الناتخواي بالذات. 

وبالرغم من تنوع نظام الحكم عند القبائل الشركسية إلا أنه بقيت هناك أساسيات عامة تنظم حياة المجتمع و بناءه السياسي. ضمن هذه الأساسيات كانت " الأديغه خابزه " أو القانون الأخلاقي القضائي الشركسي العام, " "الخاسه" البرلمان أو التجمع التشريعي إن صح التعبير, المحكمة القضائية " تحارؤا خاسه ". السلطة القضائية التنفيذية كانت على عاتق مجموعة من الشخصيات الخارجة حتما من المناطق ذات الحكم و النظام الأرستقراطي. 

بعد احتلال الأراضي الشركسية انتقلت كل السلطات إلى القوات القيصرية الروسية أما كل المؤسسات التي ذكرناها سابقا فقد دمرت تماما. لقد فقد الشراكسة حقهم في الدولة القومية و بالتالي حقهم في تقرير مصير الشعب و الأمة.

بعد ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا عام 1917 تم إقامة بعض الهياكل الإدارية ذات الصلاحيات المحدودة و الإمكانيات الضعيفة. هذه الهياكل كانت مصطنعة و مصممة لتحقيق أهداف النظام الشيوعي في البلاد. هذه الهياكل أصبحت فيما بعد سلاح من أجل التسريع في محو الهوية القومية وتوسيع هوة التواصل بين أبناء الشعب الواحد. 

أزمة الوحدة القومية:

كما هو معروف إن الشراكسة يملكون تسمية عامة خاصة بهم و هي " أديغه ", و لغة واحدة " أديغابزه " و منظومة روحانية و أخلاقية " الأديغاغه و الأديغه خابزه ". وبغض النظر عن بعض الاختلافات الثقافية و اللغوية فان الشعب الشركسي شعب واحد و لكن غير متوحد. ربما أه مخلفات الحرب الروسية – القفقاسية و الثورة الشيوعية هو انشاء هياكل و تقسيمات مصطنعة, قسمت بدورها الشعب الشركسي في القوقاز إلى مجموعات قومية جديدة وهي: " أديغيتسي, كاباردينتسي و تشيركيسي ". هذه التقسيمات أصبحت في الآونة الأخير, و خاصة ضمن الجوع الاعلامي و غياب التواصل, بدأت تظهر أبناء الشعب الواحد و كأنهم شعوب مختلفة تماما لا تملك أية جذور تاريخية مشتركة. هذا إن دل على شئ فإنما يدل على مدى عمق أزمة الوحدة القومية, و مدى نجاح السياسة القومية الروسية في تعميق الشرخ و التباعد و التفرقة في صفوف الشعب الشركسي. 

أزمة اللغة:

يمكننا القول أن الهوية اللغوية الشركسية بشكلها و محتواها و غناها أصبحت غير موجودة باستثناء أوساط جيل الكبار من الشعب الشركسي. من أجل الحصول على العمل و التعليم يجب على الإنسان بشكل أو بآخر الانخراط في الحياة العملية و إثبات الذات. بالنسبة للإنسان الشركسي عليه أولا معرفة اللغة الروسية أو العربية أو التركية .... هذه شروط الواقع المحيط. إنها اللغات الرسمية المستخدمة في المدارس و المؤسسات العلمية و التجارية و الصناعية, وفي الحيات الثقافية و السياسية في المجتمعات التي يعيش فيها الشعب الشركسي في الوطن و المهجر. لذلك نرى أن الكثيرين من الشراكسة في الوطن و الغالبية المطلقة في المهجر غير قادرة على الكتابة و القراءة باللغة الشركسية. بمعنى آخر معظم الشعب الشركسي أمي فيما يتعلق بلغته. في نفس الوقت يوجد أكثر من 10 % من الشراكسة في الوطن الذين لا يعرفون بتاتا اللغة الشركسية, في حين تصل هذه النسبة في تركيا حيث يعيش القسم الأكبر من الشعب الشركسي إلى 80 %, و في سوريا إلى 60 % و في الأردن إلى 70 %. 

إن مستوى و نوعية و كمية تدريس اللغة الشركسية في المدارس و الجامعات و المعاهد في الجمهوريات الشركسية القفقاسية سئ للغاية, و يأخذ طابع العملية الشكلية لا أكثر. و نتيجة لبرامج تعليم اللغة الشركسية المعتمدة في القفقاس نجد أن القسم الأكبر من الطلبة الشباب لا يستطيعون القراءة و الكتابة بطلاقة باللغة الشركسية, التي تعتبر في جميع هذه الجمهوريات لغة رسمية حكومية. أما فيما يتعلق بشراكسة المهجر فإنهم محرومين تماما من حق تعلم اللغة الشركسية في المدارس, و يقتصر تعليمها على بعض الدورات التي تقيمها الجمعيات الشركسية في المهجر. 

المشكلة الأساسية الأخرى أمام الحفاظ على اللغة الشركسية هي الأسرة الشركسية, فنجد أنه في المهجر اليوم الغالبية العظمى من الشباب و الأطفال لا يفقهون شيئا من اللغة الشركسي, و هذا يعود إلى عدم اهتما الأهل بهذه المسألة الحساسة, و يعود أيضا بالدرجة الأولى إلى فقدان الوعي القومية في الأسرة الشركسية لأهمية الحفاظ على اللغة و العادات و التقاليد المتوارثة من آلاف السنين كسبيل وحيد في الوقت الراهن للحفاظ على هذا الشعب من الانقراض. 

الأزمة الثقافية:

إن أعراض هذه الأزمة واضحة تماما في كل أوجه الحياة الثقافية. في السابق كانت الثقافة الشركسية تملك طابعها الخاص و الذي ترك أثرا كبيرا في قلوب الكثير من الأجانب الذين احتكوا بثقافة الشعب الشركسي, و غدا مثالا حيا و حضاريا لكثير من الشعوب المجاورة. الوضع الحالي للثقافة الشركسية سئ للغاية, فقد فقدت جماليتها و حيويتها و تمازجها في الطبائع, الوسط, اللباس و التصرفات, في الموسيقا و الرقص والفنون الأخرى. لقد تغيرت إلى الأسوأ ملامح الشخصية الشركسية. لقد هبط الحس الذوقي و هذا واضح من خلال انعكاسه على الفنون و الإبداع, على الأدب الشركسي الحديث, على الموسيقا, المسرح و ألخ.

و أكثر ما يلفت الانتباه هو الأزمة النفسانية – الروحانية لدى المجتمع الشركسي. إن مفاهيم الشرف, الأمانة و الرجولة تعرضت إلى تغييرات جذرية متأثرة بالظروف الحياتية. ففي البداية تحت تأثير السياسة القيصرية, ومن ثم نمط الحياة السوفيتي, و أخيرا استهلاكية المجتمعات الحالي, فان مفهوم الإنسان الشركسي في شكله الكلاسيكي المقدام المتطور مع المتغيرات, المتمتع بالرجولة و الحكمة بدأ يفقد صورته و خصائص في عصر العولمة و نظام العلاقات الاستهلاكية الذي فرض نفسه على المجتمعات المتخلفة و التي نشكل جزءا منها. 

لقد تعرض الشعب الشركسي لخسائر كبيرة, أهمها فقدان الخصوصية السيكولوجية القومية و المنظومة الأخلاقية الروحانية. عندما نتحدث عن مأساة تهجير الشراكسة يتوجب علينا الحديث عن الهجرة الداخلية الروحانية – السيكولوجية التي غيرت عقلية و نمط تفكير و فلسفة حياة الشعب الشركسي و كذلك تعامله مع الأشياء الثمينة التي تحمل المعاني المقدسة لديه. 

إن هذا المقال دعوة للحوار في سبيل البحث ن الحلول و الأساليب الحضارية التي يمكن أن تساعدنا في عملية إنقاذ و لو الشئ القليل, من أجل الحفاظ على هذا الشعب و ما ورثه عن الأجداد من فلسفة و حضارة, ومن أجل حقه في البقاء و التطور.

ليست هناك تعليقات: