05‏/09‏/2009

أسطورة الأمازونيات في القوقاز هل هي آخر ثورة نسائية؟



أسطورة الأمازونيات (النساء المحاربات) هي من أساطير النارتيين الشركسية، من الموروث الشعبي الأدبي عند الشركس، و هي كم هائل من الأساطير و الملاحم الشعرية و الحكايات التي تروي أحداث تاريخهم الطويل، جمعت مؤخرا في سبعة مجلدات، و ترجم قسم كبير منها إلى لغات مختلفة. و اخترنا منها أسطورة الأمازون (النساء المحاربات) لاعتقادنا بطرافتها و غناها. و قبل سردها لابد لنا أن نعرج قليلا على مفاهيم ودلالات و معاني الأسطورة بشكل عام.
ما هي الأسطورة ؟
هل هي حكاية شفهية، تصور أحداث تاريخية جرت مع الذين عاشوا في الماضي السحيق، تروي كيف جرت الأمور في ذلك الزمن البعيد، حفظتها ذاكرة الشعوب، قبل معرفة الكتابة و التدوين؟ أم أنها خرافة طريفة وشيقة، تفتق عنها خيال الرواة في قديم الزمان، لجلب المسرة إلى نفوس المستمعين و تسليتهم؟
لاشك أن الأسطورة تعود عادة إلى أزمنة غابرة موغلة في القدم من تاريخ الشعوب، وترتبط ارتباطا وثيقا بجغرافية بلادهم، ونمط تطور نظامهم الاجتماعي بما فيه من عادات و تقاليد، وهذا ما يبدو لنا واضحا و جليا ارتباط مكان و زمان الحدث الذي بين أيدينا بتاريخ الشراكسة و بنائهم الاجتماعي.


لقد لعبت الأساطير دورا هاما في حياة الشعوب و ثقافتها، وتناقلها الرواة، كل منهم يضيف أو ينقص أو يحور فيها، على هواه و حسب الظروف السائدة في عصرهم، و استمرت على هذا المنوال، حتى جاءت الديانات السماوية فحدت منها. لذلك يمكن للدارسين أن يجدوا فيها و بين سطورها شيئا من تاريخ و ماضي تلك الشعوب.
تبدو لنا رواية الأمازون (النساء المحاربات)، حادثة تاريخية حقيقية، جرت أحداثها في القوقاز الشمالي (بلاد الشركس)، رواها العديد من المؤرخين الإغريق، و سجلها الكثير من الباحثين الأجانب، ونقلوها عن الروايات الشعبية للرواة و المغنيين الشراكسة، فجاءت كلها متماثلة في خطوطها العامة، لا فرق بين رواية و أخرى إلا في تفاصيل جزئية، تدخل في باب التزويق و التجميل والخيال، مما يدل على صحة هذه الحادثة، و أثرها في التاريخ القديم لشعوب شمال القوقاز عموما، و الشراكسة منهم بشكل خاص، لذلك فهي تتدرج تحت اسم الحكاية الشعبية التاريخية و ذلك بعد تحليل مدلولاتها و مراميها التي يمكن أن نستنتجها من الأحداث في الرواية.
رواية الأمازون عند مؤرخي الاغريق
نختار من مجمل الروايات رواية هيرودوت لما عرف عن دقته التاريخية و سعة اطلاعه على شؤون القوقاز الشمالي في عصره، كونه من مواليد مدين أماسيا على حدود القوقاز.
قال هيرودوت شيخ المؤرخين الإغريق في روايته ما يلي: "حارب الإغريق قوم الأمازون و هن النساء المحاربات، و غلبوهن وشتتوا شملهن، و أسروا من بقي منهن على قيد الحياة، ووضعوهن في ثلاث سفن كبيرة في عرض البحر، و لكن النساء المأسورات تمكن من تحرير أنفسهن و قتلن كل بحارة السفن، ولما كن لا يعرفن الملاحة، راحت السفن تسير بهم على غير هدى، و حسب مشيئة الرياح، رست السفن في "كرمنس" الواقعة على بحر الميوت قريبا من بلاد الاسكيت.
نزلت النساء المحاربات من سفنهن مرهقات متعبات، و سرن يتغلغلن في البر، و بعد أيام تمكن من الاستيلاء على قطيع من الخيول صادفن، فركبنها وبدأن في شن الغارات للسلب و النهب،فأثرن بذلك غضب الاسكيت، الذين قابلوا هذه الأعمال العدوانية بالمثل، و نشبت حرب بين الطرفين، و لم يعرفوهن على حقيقتهن في بداية الأمر لجهلهم بلغتهن. و خسر الطرفان خسائر جسيمة، و لما انتهت المعركة، عرف الاسكيت أن أعدائهم من النساء، فقرروا عدم محاربتهن و اختاروا مجموعة من خيرة الشباب بعدد النساء المحاربات و أوصوهم بنصب خيامهم بالقرب من خيامهن و أن لا يقاتلوهن، بل يتقربون منهن بقدر الامكان، و أن يفعلوا ما يفعلهن، فقد أرادوا منهن النسل و الأولاد. قام شباب الاسكيت بوصية شيوخهم، و لما تيقنت النسوة أن أولئك الشبان لا يريدون بهن شرا، لم يحركن ساكنا، بل اقتربن من معسكرهم، و بعد ذلك تمكن الشبان من استمالتهن، فتوحد معسكراهما و صاروا يعيشون سوية و يتزاوجون، حتى أصبح الجميع شعب واحد.
ولم يتمكن الاسكيت من تعلم لغة الأمازون، و لكن الأمازونيات تعلمن لغة الاسكيت، فخاطب الشبان الاسكيت زوجاتهم قائلين لهن: "لنا آباء و أقرباء و عندنا الكثير من من الأموال، و الأفضل أن نبقى على اتصال بهم، و نحن لا نريد نساء غيركن"، فأجابتهن الأمازونيات بما يلي: " لا يمكننا العيش بجوار نساء بلادكم، لأن نمط عيشهن يختلف عما ألفناه، فنحن نشد الأقواس و نرمي السهام و الرماح، ونركب الخيل و نشن الغارات، ولم نتعلم مهنة النساء العاديات اللواتي يشتغلن بالأمور المنزلية، اذا أردتم بقاءنا كنساء لكم، وجب عليكم أن تذهبوا إلى آبائكم وتأتوا بما يصيبكم من أموال، وإذا فعلتم ذلك، بقينا نساء لكم و عشنا معكم أبد الدهر".
اقتنع الشبان الاسكيت و ذهبوا إلى آبائهم، ورجعوا حاملين ما حصلوا عليه من أوال. حينئذ قالت الأمازونيات: "بعدما فصلناكم عن آبائكم و أقربائكم و ألحقنا بهم الخسائر بالأموال و الأنفس، ليس بوسعنا العيش و الإقامة بجوارهم، لذلك علينا الهجرة إلى ما وراء نهر الدون".
وافق الشبان الاسكيت على رأيهن و رحلوا عن وطنهم و قطعوا النهر المذكور، وساروا شرقا لمدة ثلاثة أيام، حتى وصلوا البلاد التي يقطنونها اليوم. و لهذا السبب نجد نساء السرمات على عاداتهن القديمة، يركبن الخيل و يخرجن للصيد تارة وحدهن، و تارة مع أزواجهن. و الكثيرات منهن يرافقن أزواجهن في الحروب، و لا تختلف ملابسهن عن ملابس أزواجهن بشئ.
المروية الشركسية
تقول المروية الشركسية: "أنه لما كان أجدادنا يسكنون ساحل البحر الأسود، كانوا يتحاربون دائما مع النساء المحاربات، و هن نساء كن لا يقبلن بينهن أحدا من الرجال، و كن لا يحتفظن إلا بالمولودات من الإناث، و كانت العادة أن يحرقن ثديهن الأيمن بصفيحة من القصدير المحمى ليصبحن عديمات الثدي، مما يسهل عليهن استخدام اليد اليمنى في القتال، و استخدام السيوف و أنواع السلاح الأخرى. و كانت الربة في هذه الحروب تارة لنا و تارة لهن. و في نهاية المطاف وقبل إحدى المعارك الكبيرة، طلبت قائدة الجيش النسائي، وكانت مليحة و ذات شخصية فذة، مقابلة قائد الجيش الشركسي، وكان رجلا حكيما ذا عقل راجح و اسمه "تولمه".
نصبت خيمة بيضاء بين المعسكرين للقاء القائدين، واستمر اللقاء فترة طويلة، خرجت بعدها قائدة الأمازون و أعلنت لجيشها أن حجة "تولمه" كانت قوية، و أنها غلبت على أمرها، و لذلك قررت أن تتزوجه، و أمرت جيشها أن يفعلن مثلها لأنه بهذا العمل ستزول العداوة بينهم، و يحل محلها الحب و السلام. وهكذا كان، و صار الجميع بعدها شعبا واحدا، و انتشروا يعيشون بسلام في البلاد التي يسكنونها حتى اليوم".

و السؤال الذي يطرح نفسه بعد قراءتنا لهذه الأحداث الطريفة في الحكاية التاريخية: ما هو الحدث التاريخي الذي يمكن استنتاجه من هذه المروية، و الذي يمكن من أجله حفظها في التراث الشعبي الشركسي طوال مدة تقرب من ألفي عام، ولا شك أنها ليست تلك الحكاية التي تبدو للوهلة الأولى، و التي تؤرخ حادثة الزواج الطريفة بين جيشين متحاربين، أحدهما من النساء و الآخر من الرجال، و كلاهما من بلاد الشركس، و أن الأحداث إنما جرت في بلادهم و هي قد تحتوي على معني يمكن قراءتها من خلال القاء الضوء على تلك المرحلة الموغلة في القدم من تاريخ الشراكسة. فشعوب شمال القوقاز و منهم الشراكسة، امتازوا بسيادة الأسرة الأمومية ردحا طويلا من الزمان.
و يقول المؤرخون أن حضارة الأم في أوربا المعاصرة تدين بكثير من تقاليدها للقوقاز، الذي أقامت أمامه معظم الشعوب أثناء انتقالها للاستيطان في أوربا. و نعلم أن الزواج في المجتمع الأمومي كان يقتضي أن يلتحق الرجل بعشيرة الزوجة، التي شكلت المحور لحياة و استقرار الأسرة، عندما كان الرجل كثير التنقل في حياة الصيد و قطف الثمار. و عندما استقرت المجتمعات في الزراعة البعلية، بعدها المروية، وكثر تواجد الرجل في أسرته، بدأت الأنظمة تختلف و تميل نحو الأبوية.

بقلم :برزج سمكوغ.








ليست هناك تعليقات: